مقدمة:
مثّلت الثورة الإسلامية في إيران والتي قامت سنة ١٩٧٩ نقطة تحول محورية في مجريات الأحداث بمنطقة الخليج. لقد جلب تغيّر النظام السياسي في إيران العديد من المخاوف لدول المنطقة، ولعل أبرز ما يقلق جيرانها العرب مسألة علاقة الدولة ذات النظام الإسلامي الشيعي مع المواطنين الشيعة في دول الجوار.
يشكل الشيعة الإثناعشرية١٠-١٥٪ من مجموع سكان المملكة العربية السعودية ذات الغالبية السنية، هذه النسبة الوازنة للطائفة الشيعية في البلاد تسترعي قلق المملكة من احتمالية تصاعد نفوذ المرشد الإيراني بين مواطنيها الشيعة. وهذا أمر مفهوم، كون البلدين الجارين في حالة صراع استراتيجي وسياسي محتدم منذ تغير نظام الحكم في طهران. ويتزايد القلق بعد طرح الخامنئي مرجعيته الفقهية العابرة للحدود؛ فهو بالإضافة لكونه مرجعًا فقهيًّا، فإنه كذلك يحمل صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة في إيران. وقد بلغ القلق من نفوذ مرجعية الخامنئي ذروته بعد تفجير أبراج الخبر في ٢٥ يونيو/ حزيران ١٩٩٦، هذا الهجوم الإرهابي الذي استهدف سكان الجناح ٤٤٠٤ التابع لسلاح الجو الأمريكي المتمركز في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، المنطقة ذات الكثافة السكانية الشيعية.
تهدف هذه الورقة البحثية إلى مقاربة النفوذ الإيراني داخل المجتمع الشيعي في السعودية من خلال التركيز على أتباع مرجعية المرشد الأعلى والمعروفين بـ "خط الإمام" والجناح العسكري المنسوب للتيار والمعروف دوليًا بـ "حزب الله الحجاز" أو "حزب الله السعودي" والذي تتوجه له أصابع الاتهام بتنفيذ تفجير الخبر ١٩٩٦. إن الخوض في هذا الموضوع يواجه تحديًا رئيسيًا يتمثل في عدم وجود مراجع رصينة لمعظم ما تمت كتابته عن التيار. بل إن غالبية ما يُنسب إلى الشيعة السعوديين الذين يتبنون خط الإمام ومفهوم ولاية الفقيه يرجع في روايته الأصلية إلى خصومهم من التيارات الشيعية الأخرى في المملكة، وهذا ما يلقي بظلال من الشك على مصداقية هذه السرديات والادعاءات التي تتضمنها.
تحقق هذه الورقة في الروايات الأساسية حول خط الإمام وحزب الله الحجاز والتي تحولت مع مرور الوقت إلى مصادر رئيسية يستشهد بها الباحثون والصحفيون في كتاباتهم حول هذه الجماعة.
الخميني، الخامنئي، وولاية الفقيه:
منذ وصول آية الله السيد روح الله الخميني (ت ١٩٨٩) إلى السلطة وتسلمه منصب المرشد الأعلى لإيران في أعقاب الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩، قفز على الساحة جدل كبير ومستمر حول دور آيات الله في المجال السياسي في منطقة الشرق الأوسط. لقد أثر الخميني على العديد من النشطاء الإسلاميين في جميع أنحاء العالم، وخاصة الجماعات الشيعية المسلحة في لبنان والعراق التي تعتبره المرجع الأعلى صاحب سلطة الفتوى الشرعية.
ومنذ مجيء الخامنئي للسلطة في ١٩٨٩، كخليفة للخميني، أصبح يتعامل مع الشأن السياسي من موقع الولي الفقيه الذي يعني -من الناحية النظرية- "الوصي على شؤون المسلمين في جميع أنحاء العالم". وعلى الرغم من القيود المذهبية والجغرافية الواضحة التي تحجّم موقع الولي الفقيه بوصفه شيعيًا إيرانيا، فإن الإيمان بسلطته العابرة للحدود كزعيم ديني وسياسي يشكّل مصدر قلق كبير للبلدان التي يتبعه فيها بعض المواطنين الشيعة بوصفه المرجع الفقهي الأعلى.
شهدت مرحلة ما بعد الخميني توسيع الخامنئي لنفوذه داخل المجتمعات الشيعية كمرجع معاصر يختلف في أسلوب طرحه عن الجيل السابق، بمن فيهم الخميني. فقد تميزت مرحلة الخامنئي بأسلوب جديد "من خلال آليات متطورة، قام من خلالها بتغيير الأسلوب الإداري للمؤسسات الدينية الشيعية في جميع أنحاء المنطقة لتصب في مصلحة أجندته السياسية وتسخيرها لخدمة نهجه المناهض للغرب والمعادي للولايات المتحدة." [1]
خط الإمام:
يشير مصطلح "أنصار خط الإمام" في الأصل إلى الطلاب الإيرانيين الذين اقتحموا السفارة الأمريكية في طهران في نوفمبر/ تشرين الثاني ١٩٧٩، ولاحقًا تم التوسع في المصطلح ليشمل جميع الناشطين الشيعة الذين يتبنون أفكار الخميني ومواقفه العامة.
في السياق الديني، يستخدم مصطلح "خط" للإشارة إلى جماعة تتبنى نهجًا محددًا داخل محيطها الديني. والمقصود بـ "الإمام" هنا هو السيد روح الله الخميني الذي تعارف أتباعه على تلقيبه بـ "السيد الإمام"، اللقب الذي أصبح ينصرف له وحده دون سواء من علماء الطائفة الشيعية. وكما هو معلوم، فإن لقب الإمام في الموروث الشيعي غالبًا ما ينحصر في الأئمة الإثني عشر الذين يؤمن الشيعة بعصمتهم وكونهم خلفاء لنبيهم. وعلى مدى التاريخ الشيعي، ثمة عدد قليل جدا من العلماء الذين تعارف أتباعهم على تلقيبهم بالإمام، والخميني هو أبرزهم على الإطلاق. وعليه، فإن أنصار خط الإمام، هم اتباع الخميني، وبالطبع هم اليوم أتباع خليفته الخامنئي. هذا المصطلح يعكس طبيعة الولاء لشخص المرشد الإيراني بوصفه "ولي أمر المسلمين"، هذا الولاء -نظريًا- لا شأن له بالحكومة الإيرانية، كونه بين أتباع "خط الإمام" و "الإمام" شخصيًّا، غير أنه يبقى من الصعب -عمليًا- الفصل بين رأس الدولة وحكومته.
عاش آية الله الخميني في منفاه الأول بالنجف في الفترة بين ١٩٦٥-١٩٧٨ حيث مارس التدريس الحوزوي فيها. وأثناء تلك الفترة حضر عنده بعض الطلبة السعوديين الذين انجذبوا له وتأثروا به. ففي عام ١٩٧٢، انتقل السيد هاشم بن محمد الشخص من الأحساء شرق المملكة العربية السعودية إلى النجف من أجل الدراسة الحوزوية حيث حضر دروس الخميني وتأثر به مع مرور الوقت. تدريجيًا، قرر الشخص أن يسلك مسارًا مختلفًا عن أسرته المعروفة بعلمائها الذين يتبعون المرجعية العليا في النجف. وبدلا من تقليد السيد أبو القاسم الخوئي (ت ١٩٩٢) قرر السيد هاشم الشخص تبني مرجعية الخميني.
في ذلك الوقت، كان الخميني يمثل زعامة روحية لعدد من الطلبة الذين كانوا يحضرون دروسه التي تتمحور حول تأصيل الشكل المثالي للحكومة الإسلامية مع التركيز على إيران بشكل أساسي. لم يكن الخميني وقتها مرجعًا ذا شعبية تُقارن بالخوئي في النجف أو آية الله السيد كاظم شريعة مداري (ت ١٩٨٦) في قُمّ بإيران، ولم يلقَ أتباعه الجدد من الأحسائيين اهتمامًا كبيرًا في محيطهم الاجتماعي، خاصة مع عدم وضوح أي طموح سياسي لديهم في ذلك الوقت.
وفي السياق نفسه، كان عدد من الطلبة السعوديين في حوزة النجف، معظمهم من الأحساء، يحضرون دروس المرجع العراقي الشاب آية الله السيد محمد باقر الصدر (ت١٩٨٠) الذي كان قريبًا جدًا من الخميني في تصوره للدولة الإسلامية. تأثر هؤلاء الطلبة بالخطاب الفكري للصدر الذي تخطى الأسلوب التقليدي للحوزة في تدرسيها للفقه حيث أدخل الفلسفة الحديثة، الاقتصاد، والسياسة في دروسه الفقهية. يضاف إلى ذلك أن عددًا من أتباع الصدر قد قاموا بتأسيس حزب الدعوة الإسلامي الذي حظره نظام البعث لاحقًا. ومن الجانب السعودي، كان الشيخ الدكتور عبدالهادي الفضلي (ت ٢٠١٣) أبرز الطلبة السعوديين الذين انخرطوا في العمل مع حزب الدعوة قبل عودته لبلاده ليعمل أستاذا جامعيا في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، حيث ترأس لاحقا قسم اللغة العربية هناك.
بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، انتقل العديد من طلبة الصدر إلى قم هربًا من مضايقات نظام حزب البعث العراقي، خاصة بعد اعتقال الصدر وإعدامه في أبريل/ نيسان ١٩٨٠.[2] بدأ أولئك الطلبة حضور دروس السيد محمود هاشمي شاهرودي (ت ٢٠١٨) والشيخ حسين المنتظري (ت ٢٠٠٩) الذي كان وقتها يُعتبر الخليفة المرتقب للخميني قبل إقصائه من قبل الأخير عام ١٩٨٩. الجدير بالذكر أن منتظري هو مؤلف أهم وأكبر موسوعة لمفهوم ولاية الفقيه والتي تقع في خمسة مجلدات، بينما شغل شاهرودي منصب رئيس السلطة القضائية لمدة عشر سنوات ١٩٩٩-٢٠٠٩، وكان الكثيرون ينظرون له على أنه الخليفة المرتقب للخامنئي في منصب المرشد الأعلى. [3]
كما أسلفنا، فإن عددًا من طلبة السيد محمد باقر الصدر قد هاجروا من النجف إلى قم، وكان من ضمنهم بعض رجال الدين الشيعة السعوديين الذين قاموا في عام ١٩٨٧بإنشاء مجموعة خاصة بهم أطلقوا عليها "تجمع علماء الحجاز" لتكون حوزة مصغرة خاصة بالطلبة السعوديين المقيمين في قم والذين يتبنون أفكار الصدر والخميني. وقد اختار هؤلاء الأفراد مسمى "الحجاز" للتعبير عن رفضهم لمسمى "السعودية" ككيان وطني لبلدهم. ورغم البعد الجغرافي بين منطقة الحجاز الواقعة غرب السعودية، والأحساء والقطيف شرقها، فإن هذا المسمى كان أفضل الخيارات المتوفرة بعد أن تم شُغل مسمى "الجزيرة العربية" من قِبل المجموعة المعارضة الأخرى والتي تتبنى مرجعية السيد محمد الشيرازي (ت ٢٠٠١) والتي كانت تطلق على نفسها "منظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية". كان الشيرازيون ومنظمتهم الجماعة الشيعية السعودية الأبرز في نشاط المعارضة خلال حقبة الثمانينيات قبل أن يصفّوا نشاطاتهم ويعودوا للبلاد مستفيدين من العفو الذي أصدره الملك فهد (ت٢٠٠٥) في عام ١٩٩٣ والذي شمل جميع المعارضين الشيعة في الخارج.[4] وعليه، فقد اختارت المجموعة الجديدة الموالية للخميني مسمى ذا طابع مقدس يرمز للمنطقة التي تحتضن الحرمين الشريفين بدلًا من مسمى الجزيرة العربية. وهكذا، فإن المعارضة الشيعية المعروفة بـ "الجزيريين والجزيريون" كانت ترمز لأتباع الشيرازي، بينما رمزت ألقاب "الحجازيين والحجازيون" إلى أتباع الخميني، ثم الخامنئي.
من المثير للاهتمام أن غالبية الشيعة السعوديين الذين تبنوا مرجعية الخميني في الثمانينات كانوا من الأحساء، مثل السيد هاشم الشخص والشيخ حسين الراضي. بالنسبة للقطيفيين، فإن الوحيد المعروف بأنه حضر دروس الخميني في النجف كان الشيخ عبدالجليل بن مرهون الماء. أما بالنسبة للمرحلة اللاحقة في قم، فقد انضم بعض الطلبة القطيفيين لتجمع علماء الحجاز الذين تبنّوا مرجعية الخميني، ومنهم الشيخ عبدالكريم الحبيل والشيخ سعيد البحار. الأمر مثير للاهتمام، كونه يأتي على عكس التيار الشيرازي الذي كان لأبناء القطيف فيه العدد الأكبر مقارنة بالأحسائيين. قد يكون السبب راجعًا لكون أولئك الذين حضروا دروس الخميني والصدر في النجف خلال السبعينات كانوا ينتمون عائلات علمية معروفة وذات نفوذ في الأحساء. كذلك فإن النموذج الاجتماعي في الأحساء أكثر تنظيمًا وتماسكًا مما هو عليه في القطيف، حيث من الطبيعي أن تجد معظم أفراد العائلة الكبيرة – التي قد يصل تعدادها إلى الآلاف- يرجعون فقهيًا للمرجع نفسه. بالنسبة للقطيف، فقد تركّز معظم أتباع خط الإمام في قريتين محددتين: الربيعية (تاروت) والجارودية.
بشكل عام، كان أولئك المعممون يركزون على التعليم الديني ويروّجون لمرجعية الخميني ضمن إطار دوائرهم الاجتماعية في وسط المجتمع الشيعي السعودي. لم يكن هناك ملامح مسيسة لنشاطاتهم، بل إنهم "لم يشاركوا في (انتفاضة ١٤٠٠هـ) وهي الاحتجاجات التي كانت الحدث التأسيسي الرئيسي للحركة الشيرازية." [5]
بالرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة لأعداد مقلدي المراجع الشيعة، فإنه بإمكان المراقبين الخروج ببعض التقديرات عن الحجم التقريبي للتقسيمات المختلفة داخل المجتمع الشيعي. ففي المملكة العربية السعودية كان عدد مقلدي الخميني متواضعًا جدا مقارنة بمرجعيات مثل الخوئي (ت ١٩٩٢) أو حتى الشيرازي (ت ٢٠٠١). وبعد وفاة الخميني، لم يطرح خليفته الخامنئي نفسه في البداية مرجعًا للتقليد، فقد دعمت طهران مرجعية السيد محمد رضا الكلبايكاني (ت ١٩٩٣) ثم الشيخ محمد علي الأراكي (ت ١٩٩٤). وبعد وفاة الأراكي، طرح الخامنئي مرجعيته لتعود المرجعية لترافق الولي الفقيه في طهران. وقتها، بدأ مجموعة من الشباب السعوديين من مواليد نهاية السبعينيات بتقليد الخامنئي كمرجع فقهي. إن توجه أولئك الشباب لتقليد الخامنئي في منتصف التسعينيات يعود لرغبتهم في مرجعية حديثة تختلف عن تلك المرجعيات التقليدية، فوجدوا في الخامنئي ضالتهم، بالذات بعد أن أوقف الشيرازيون نشاطهم المعارض وعادوا لوطنهم في تلك الفترة التي شهدت العفو الملكي للمعارضين الشيعة.
ليس من المستغرب أن تجد شيعة غير مسيسين ضمن أتباع خط الإمام. ثمة جانب مهم من شخصية الخميني تجدر الإشارة إليه، وهو العرفان. هذا النوع من التصوف الإسلامي الذي وجد طريقه بين بعض علماء الطائفة الشيعية كان الخميني يمثل أحد أبرز رموزه. إن كثيرًا من أولئك المتأثرين بشخصية الخميني كان يشدهم العرفان بعيدًا عن السياسة، بل إن بعضهم يعتبر إنجازات الخمينية السياسية والعسكرية نتيجة لمكانته العرفانية التي تمكنه من التعامل مع العالم المادي بشكل روحاني. هذا الموقف تدعمه بعض قصص الانتصارات الإيرانية على أعدائهم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وحلفائها. نذكر في هذا الصدد قصة عملية "مخلب العقاب" عندما أصدر الرئيس الأمريكي جيمي كارتر أوامره للقوات المسلحة الأمريكية باختراق الأراضي الإيرانية بهدف القيام بعملية نوعية لتحرير موظفي السفارة الأمريكية الذين احتجزهم الإيرانيون كرهائن بعد الثورة. فشلت العملية التي قام بها الجيش الأمريكي في ٢٤ أبريل/ نيسان ١٩٨٠ في تحقيق هدفها لأسباب عدة من ضمنها سوء الأحوال الجوية في صحراء طبس والذي أدى إلى تحطم ثلاث طائرات من أصل ثماني تم إرسالها لتنفيذ المهمة. [6] هذه القصة وأمثالها يتم استخدامها من الجانب الإيراني للتأكيد على التسديد الإلهي للخميني والثورة، وثمة قصص مماثلة تدعم الجانب الروحاني من شخصيتي الخميني والخامنئي والمراجع الآخرين -غير المسيسين- الذين يدعمون الثورة من أمثال الشيخ محمد تقي بهجت الفومي (ت ٢٠٠٩) والشيخ عبدالله جوادي الآملي.
حزب الله الحجاز:
يستدعي مسمى "حزب الله" الجماعات المسلحة التي تتبنى أيدولوجيا الخميني، وعلى رأسها حزب الله اللبناني وكتائب حزب الله في العراق. وبشكل عام، نستطيع القول إن المعلومات المتوفرة حول حزب الله الحجاز شحيحة جدًا ويلفها الغموض، ويشمل ذلك هويات أعضائه والعناصر الأجنبية الموكلة بالتنسيق والتعاون معهم. إن المعلومات المتوفرة حول الجماعة محدودة جدًا ولا تتجاوز -في ومعظمها- بعض المعلومات الأساسية حول الأفراد المتهمين بالضلوع في أنشطة عنف أو عمليات إرهابية مع وجود مؤشرات معتبرة حول ارتباطهم بالحرس الثوري الإيراني. هذه الفرضية فيها وجاهة لكون الحرس الثوري هو الجهة الإيرانية المعنية بالتعامل مع الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران حول العالم. [7]
كما هو الحال مع معظم المعلومات المتعلقة بحزب الله الحجاز، فإن تاريخ تأسيسه غير واضح. يذكر توبي ماثيسن أن "حزب الله الحجاز تأسس في مايو/ أيار ١٩٨٧. وبعد أسبوع من حادثة الحج، تعهد الحزب بقتال الأسرة الحاكمة في السعودية." [8] وقع الحادث المشار إليه في ٣١ يوليو/ تموز ١٩٨٧ عندما قتل أكثر من ٤٠٠ شخص إثر اشتباكات عنيفة بين مجموعة من الحجاج الإيرانيين وقوات الأمن السعودية، وصدر بيان التهديد في أغسطس/ آب من ذلك العام. كان ذلك هو البيان الأول للحزب منذ التأسيس، إذ أنه خلال فترة الأشهر الثلاثة الأولى لم يكن ثمة ما يدعو للتصعيد مع الحكومة السعودية.
تمثل حادثة مكة ١٩٨٧ نقطة تحول في العلاقات السعودية الإيرانية. حتى ذلك الحين، لم يكن لدى إيران داخل السعودية أتباع يُعتمد عليهم. [9]وقتها، نشط الشيرازيون في ترويج الدعاية ضد الحكومة السعودية والعائلة المالكة. وعلى الرغم من إدارة "منظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية" لمعسكرات تدريب في طهران، فإن المنظمة لم تكن تبدو متحمسة للقيام بأعمال عسكرية داخل المملكة، ربما يرجع ذلك لحساباتهم وتقديرهم لعواقب مثل تلك العمليات. لقد حرص الإيرانيون على الإبقاء على الآلة الإعلامية المعادية للسعودية والتي يقودها الشيرازيون وإن لم يكن لديهم أكثر من النشاط الإعلامي. وعلى الجانب الآخر، فقد الشيرازيون حليفهم الأبرز في الحكومة الإيرانية، مهدي هاشمي رئيس مكتب حركات التحرر، وهي الجهة الرسمية المسؤولة عن دعم المنظمات الأجنبية ومنها منظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية. في تلك الفترة اتهمت الحكومة الإيرانية هاشمي بتسريب معلومات عن عملية إيران كونترا أواخر عام ١٩٨٦، وأُعدم هاشمي في السنة التالية وأغلق مكتب دعم حركات التحرر.[10]
يكتنف الغموض كذلك هويات الأعضاء المؤسسين لحزب الله الحجاز. جميع الأسماء المعروفة هي حصريًا لأشخاص متهمين بالتورط في أعمال عنف على الأراضي السعودية. بمعنى أنه ليس ثمة شخص معروف غير أولئك الذين يفترض أنهم شاركوا بالفعل في عمليات ذات طابع مسلح. يذكر أن عددًا من الأسماء الميدانية المعروفة لأفراد حزب الله الحجاز كانوا في الأصل من الشيرازيين قبل أن يتحولوا لخط الإمام. والاسم الأهم في هذا السياق هو أحمد إبراهيم المغسل الذي أصبح قائدًا للجناح العسكري لحزب الله الحجاز، فقد قرر المغسل ترك منظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية لأنه لم يجدها "ثورية بما فيه الكفاية".[11] كذلك، خالد العلق الذي ترك الشيرازية وانضم لحزب الله الحجاز. العلق هو أحد أعضاء خلية الأربعة المتهمين بتفجير مصنع صدف للبتروكيماويات في الجبيل في مارس/ آذار ١٩٨٨، وقد تم إعدامه ورفاقه في سبتمبر/ أيلول من ذلك العام.
بالرغم من توفر العديد من المواد التي تناولت حزب الله الحجاز (أو حزب الله السعودي)، فإن الصورة ما تزال ضبابية حيث لا تقدم تلك المواد إلا القليل من التفاصيل. وفي الواقع، فإن معظم ما كتب حول الموضوع استند إلى راوية منافسيهم السعوديين، أي أعضاء في "منظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية" (الشيرازيون). ففي عام ٢٠٠٦ أصدر فؤاد إبراهيم -العضو السابق في منظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية- كتابًا بعنوان الشيعة في السعودية عن دار الساقي. يمكن اعتبار الكتاب المرجع الدراسي الأقدم حول حزب الله الحجاز. وقد بنى توبي ماثيسن على رواية فؤاد إبراهيم وكتب عدة دراسات عن شيعة الخليج. وفي عام ٢٠١٠ نشر بحثًا بعنوان "حزب الله الحجاز: تاريخ جماعة المعارضة الشيعية السعودية الأكثر تطرفًا"، تلاه كتاب بعد أربع سنوات بعنوان سعوديون آخرون. بنيت أعمال ماثيسن على سردية فؤاد إبراهيم المدعومة بمقابلات أجراها مع نشطاء شيرازيين. بعدها، بنى معظم الباحثين والصحافيين سردياتهم على نتاج ماثيسن. وعليه، فإنه من غير المستغرب أن تجد معظم ما كُتب حول حزب الله الحجاز بالكاد يمس جوهر الموضوع، لأنه جاء مكتوبًا على هامش الحديث عن الشيرازيين، وإن كانت العناوين توحي بأنها أعمال متخصصة في حزب الله الحجاز وخط الإمام.
يعتبر ماثيسن اليوم المرجع الأساسي لدراسة التاريخ السياسي للشيعة في المملكة العربية السعودية. فجميع الباحثين والصحفيين الذين يكتبون حول الموضوع يعتمدون في عملهم على روايته ويتعاملون معها بشكل مسلّم به، في الوقت الذي سلّم هو برواية الشيرازيين كما هي. هذا يعني أن الشيرازيين قد قاموا بتمرير سرديتهم حول منافسيهم عن طريق باحث غربي. ومن الأمثلة على التسليم المطلق برواية ماثيسن، البحث الذي نشره محمد فوزي باللغة الإنجليزية في دورية كلية الآداب بجامعة عين شمس بعنوان "إيران وحزب الله: علاقة خاصة جدًا"، حيث بنى فوزي مجمل تناوله لحزب الله الحجاز على رواية ماثيسن بشكل كامل. [12]
ثمة كتاب (باللغة العربية) بعنوان حزب الله الحجاز بداية ونهاية تنظيم إرهابي قدم فيه حمد العيسى نفسه كمترجم لبحث توبي ماثيسن المنشور في ٢٠١٠ بعنوان "حزب الله الحجاز: تاريخ جماعة المعارضة الشيعية السعودية الأكثر تطرفًا". وبغض النظر عن الترجمة الخاطئة للعنوان التي استبدلت "التطرف" بـ "الإرهاب"، فإنه من اللافت أن الكتاب الذي أعده العيسى مكون من ١٩٠ صفحة، بينما لا يتجاوز البحث الأصلي الذي نشره ماثيسن الـ ١٨ صفحة فقط! وللقارئ أن يتساءل عن ماهية بقية الإضافات التي قام بها العيسى ليخرج بكتاب بهذا الحجم.
ومن الدلائل الأخرى على كون الباحثين قد أخذوا رواية ماثيسن بتسليم كامل وأن معظم الكُتّاب العرب قد نسخوا ولصقوا ما كتبه دون تدقيق، أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء تدقيق الأسماء، ناهيك عن القصص والتحليلات التي طرحها في أعماله. على سبيل المثال، أشارت العديد من الكتب والمقالات العربية إلى الشيخ "عبد الجليل المع" (Abdul Jalil al-Ma’a)، بوصفه أحد قادة خط الإمام، ولم يلتفت أحدهم إلى اسم العائلة "المع" الغريب جدا عن المنطقة، إذ لا توجد عائلة في القطيف أو الأحساء بهذا الاسم! لم يحاول أي من هؤلاء الكتاب العرب تحري وتدقيق الاسم الكامل الصحيح، وهو الشيخ عبد الجليل بن مرهون الماء. وعائلة مرهون الماء تنتمي إلى تاروت، ولكن أهل القطيف يحذفون الجزء الأول منها (مرهون)، لأن هناك عائلات أخرى تحمل اسم المرهون. فإذا كان النسخ واللصق قد جعل الكثير من الكتّاب يغفلون شبهة واضحة كهذه، فكيف بالقصص والتحليلات التي ساقها ماثيسن في أعماله؟
الأنشطة المبكرة لحزب الله الحجاز:
جاء الإعلان عن تأسيس حزب الله في عام ١٩٨٧ حيث بلغ التوتر السعودي-الإيراني ذروته. وفي ١٦ أغسطس/ آب من ذلك العام، وقع انفجار في إحدى منشآت شركة أرامكو البترولية في رأس الجعيمة (٣٢ كم شمال القطيف). وفي مارس/ آذار ١٩٨٨، وقع هجومان آخران: أحدهما على منشأة للبتروكيماويات التابعة لشركة صدف في الجبيل (٧٥ كم شمال القطيف) والآخر في مصفاة رأس تنورة (٢٧ كم شمال القطيف) والتي "أعلنت الجماعة الجديدة التي تلقب نفسها بـ حزب الله مسؤولياتها عنها." [13] وقد أعقب تلك الهجمات بعض الاشتباكات التي أسفرت عن اعتقال عدد من عناصر الجماعة، إضافة لمقتل وإصابة بعض أفراد الأمن السعوديين.
وفي السياق نفسه، تم إعدام الخلية المكونة من أربعة أفراد والمتهمين بتنفيذ تفجير صدف. كما تم إلقاء القبض على مجموعة من أتباع خط الإمام المشتبه بعلاقتهم بالتنظيم المسلح، قبل أن يُطلق سراحهم بعفو ملكي جاء نتيجة التفاهم الذي حصل عام ١٩٩٣ بين حكومة المملكة والحركة الإصلاحية (المسمى الجديد لمجموعة الشيرازيين بعد أن تخلوا عن مسمى "منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية").
لم يكن حزب الله الحجاز المنظمة السعودية السرية الوحيدة الموالية لإيران التي أعلنت مسؤوليتها عن تنفيذ هجمات في منطقة الشرق الأوسط. ففي أواخر الثمانينيات، حدثت سلسلة اغتيالات لدبلوماسيين سعوديين في أنقرة وبانكوك وكراتشي تبنتها منظمتان: جند الحق والجهاد الإسلامي في الحجاز.[14] غير أنه لم ترد أي تفاصيل عن تلك التنظيمات بخلاف بياناتها التي أعلنت فيها مسؤوليتها عن الهجمات وإعلانها عن كونها تتخذ من بيروت مقرًا لها.
يرى بعض الباحثين مثل جاشوا تيتلبوم[15] وتوبي ماثيسن[16] أن هذه المنظمات ليست إلا جزءًا من الجناح العسكري لحزب الله الحجاز. وبغض النظر عن ماهية تلك الكيانات المزعومة، فقد اختفت هذه المنظمات في فترة التسعينيات وما بعدها ولم يصدروا أي بيانات أخرى ولم يعلنوا عن مسؤوليتهم عن أي عمليات أخرى، بما في ذلك تفجير أبراج الخبر عام ١٩٩٦.
في فترة بداية التسعينيات، خفتت التوترات بين المجتمع الشيعي في السعودية وحكومته وبدت الأمور هادئة للغاية. وبعد أن طرح آية الله الخامنئي مرجعيته الفقهية، تبنى العديد من الشباب تقليده كجزء من تبنيهم للإسلام الحركي داخل مجتمعهم.
لا ينبغي إغفال السياق الزمني الحرج في فترة التسعينيات حيث نشط العديد من المتطرفين السلفيين في مواجهة الدولة وكانوا ينتقدون الحكومة السعودية بسبب استعانتها بالقوات الأجنبية لتحرير الكويت والسماح لها بالبقاء على الأراضي السعودية بعد التحرير. لم تكن أذهان هؤلاء الأشخاص تستوعب المهمات الاستراتيجية المنوطة بتلك القوات. إضافة لذلك، فقد كانت تلك الشخصيات السلفية تنتقد الدولة فيما كانت تصفه بالمواقف الناعمة من العلمانيين والشيعة. ومن أبرز الأسماء السلفية التي نشطت في تلك الحقبة: الشيخ سفر الحوالي، الشيخ سلمان العودة، والشيخ ناصر العمر.[17] بالتالي، فقد كانت البيئة مهيأة للاستخبارات الإيرانية للبحث عن أفراد يتماهون مع أجندتها مستغلة التوتر الطائفي الذي كان يشعله بعض المتطرفين السلفيين السُنَّة.
في ٢٥ يونيو/ حزيران ١٩٩٦، وقع تفجير الخُبر التي يعد الهجوم الإرهابي الأشد دموية في المملكة والذي تسبب في زيادة مستوى التوتر بين الحكومة السعودية ومواطنيها الشيعة، حيث ارتفعت حدة الخطاب الإعلامي المحلي ضد "أتباع إيران".
تفجير أبراج الخبر:
يقع مجمع أبراج الخبر في المنطقة الشرقية (٥٠ كم جنوب القطيف) وكان المجمع يستضيف قرابة الألفي عسكري أمريكي ممّن كانوا يعملون في قاعدة الملك عبدالعزيز الجوية في مدينة الخبر. كان المبنى رقم ١٣١ عبارة عن مجمع سكني لأفراد القوات الجوية الأمريكية المكلفين بعملية المراقبة الجنوبية المكلفة بفرض منطقة حظر الطيران في جنوب العراق.
مساء يوم ٢٥ يونيو/ حزيران، حوالي الساعة ٩:٣٠-١٠:٠٠م كان الرقيب ألفريدو غيريرو والطيار كريستوفر واغار واقفين على سطح المبنى ١٣١ عندما لاحظا وجود سيارة شيفروليه كابرس بيضاء ذات أربعة أبواب تتجول في ساحة مواقف السيارات بالمبنى. وبعدها بلحظات كانت مركبة أخرى تتبعها ببطء؛ لقد كانت شاحنة صهريج مرسيديس بنز بسعة ٣٥٠٠-٤٠٠٠ جالون. نزل رجلان من الصهريج وركضا ناحية الكابرس ليغادروا المكان. وقتها تيقّن غيريرو وواجار بأن شاحنة الصهريج لم تكن إلا قنبلة مفخخة. وعلى الطرف المقابل بالقرب المبنى ١٣١، كان الطيار كريج جيه ديك يقوم بدورية في مركبة عسكرية عندما سمع إنذارًا أمنيًا على راديو الدورية، فأسرع إلى مكان الحادث ليتوقف عند المبنى وينضم إلى زميليه حيث بدأ الثلاثة في عملية إخلاء الطابقين العلويين من المبنى ١٣١. [18]
بالرغم من يقظتهم وتحركهم المباشر، فإن جهود العسكريين الثلاثة لم تمنع الإصابات. فبالرغم من تمكنهم من الشروع مباشرة في إخلاء المبنى، فقد وقع التفجير بعد ثلاث دقائق فقط من بدء العملية، أي قبل أن يتم الإخلاء بالكامل. وقد نتج عن التفجير مقتل ١٩ (كلهم من الأمريكيين) بالإضافة لجرح ٤٩٨ من جنسيات مختلفة. وتعتبر هذه العملية أعنف هجوم يشن على القوات الأمريكية منذ تفجير ثكنة مشاة البحرية في بيروت عام ١٩٨٣. [19]
لقد كان الوجود العسكري الأمريكي في المملكة وبقية دول الخليج مصدر قلق لكل من إيران وتنظيم القاعدة. ونظرًا للأسباب القانونية والدبلوماسية، فقد كانت مقدرة إيران في التعبير عن انزعاجها محدودة للغاية. على الطرف المقابل، كانت القاعدة -كمنظمة إرهابية- قد أوضحت موقفها من الوجود الأمريكي في "بلاد الحرمين". فقبل بضعة أشهر من تفجير الخبر، في ١٣ نوفمبر/ تشرين الثاني ١٩٩٥، نفذت عناصر من القاعدة هجومًا على مركز تدريب تابع للحرس الوطني في الرياض. كان المركز التدريبي يُدار من قبل خبراء عسكريين أمريكيين. وقد أسفر الهجوم عن مقتل خمسة أمريكيين وهنديان، بالإضافة لجرح ٦٠ شخصًا من جنسيات مختلفة. وخلال مدة قياسية، قبضت السلطات السعودية على أربعة أشخاص وأحالتهم للمحاكمة وتم إعدامهم. ظهر أعضاء الخلية على شاشة التلفزيون الرسمي واعترفوا بأنهم متأثرين في أفعالهم بأسامة بن لادن. [20]
نظرًا للتقارب الزمني بين العمليتين الإرهابيتين، فقد توجهت الاتهامات في البداية إلى "القاعدة" التنظيم السني المتطرف صاحب الأجندة العابرة للحدود. بعد ذلك بوقت قصير، تحول التركيز إلى جماعة شيعية متطرفة ذات علاقة بإيران وتسمى “حزب الله الحجاز". بدأت مؤشرات اتهام الجماعة الشيعية وإيران في اللقاء الأول الذي جمع لويس جيه فريه مدير مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) والأمير بندر بن سلطان السفير السعودي بواشنطن في مقر إقامة الأخير في ماكلين بولاية فيرجينيا بالقرب من واشنطن العاصمة. ويعترف فريه بأنها المرة الأولى التي يعلم فيها بأن حزب الله نشط في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية ويقول: "بينما اتفق بندر بأن ذلك (أي تورط حزب الله) محتمل، غير أنه شكك في ذلك." [21] بعد ذلك الاجتماع، عمل مكتب التحقيقات الفيدرالي مع الأمير بندر في واشنطن العاصمة ومع المباحث العامة في الرياض (وكالة الشرطة السرية السعودية التي يمكن مقارنتها بمكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي).
مع التقدم في مجريات التحقيق، تركزت الشكوك بشكل متزايد على إيران وأتباعها المحليين. وقد أعلم السعوديون مكتب التحقيقات الفيدرالي أنهم قبل شهرين من الهجوم ألقوا القبض على مواطن من أهالي القطيف كان يحاول تهريب ٣٨ كيلوغرامًا من المتفجرات البلاستيكية كان قد حصل عليها في لبنان وحاول إدخالها الأراضي السعودية عن طريق البر.[22] واعتقلت السلطات السعودية فيما بعد ثلاثة مواطنين آخرين.[23] وبعد ذلك تم اعتقال العديد من الشيعة السعوديين الذين كان يُشتبه في أنهم من أتباع خط الإمام وأعضاء محتملين في حزب الله الحجاز.
في الفصل الأول من الكتاب الذي يروي سيرته الذاتية، قدم فريه وصفًا مفصلًا للهجوم، تضمن دور كل متهم في العملية. غير أنه لم يذكر في كتابه المصادر التي بنى عليها تلك المعلومات التفصيلية، مما يوحي بأن تلك التفاصيل التي أوردها استندت إلى التحقيق الذي ترأسه من الجانب الأمريكي. في الواقع، لم تكن رواية فريه أكثر من ملخص للتهم الرسمية ضد مجموعة مكونة من ١٣ سعوديًا شيعيًا وشخص شيعي لبناني والتي تُنظر في محكمة المقاطعة الشرقية بمدينة ألكسندريا بولاية فيرجينا. [24]
يقدم ماثيو ليفي وصفًا أكثر تفصيلًا للهجوم، خاصة فيما يتعلق بمراقبة أوضاع وجاهزية العسكريين الأمريكيين المتواجدين في السعودية.[25] ولأنه ليس ذا صفة رسمية -مثل فريه- فقد اعتمد ليفي بشكل كامل على ملف القضية المرفوعة في محاكم ولاية فيرجينا والتي أوردت الكثير من التفاصيل حول القضية ودور كل متهم في العملية.
من المثير للاهتمام أن السردية الوحيدة المتوفرة للحادثة هي تلك التي أوردها الجانب الأمريكي. حتى الآن، لا توجد سردية رسمية من الجانب السعودي، غير أن وسائل الإعلام السعودية تتناول سردية مماثلة لما أورده الأمريكيون، وإن كانت أقل تفصيلًا- دون تأكيد أو نفي من المسؤولين السعوديين. غير أنه من المستبعد أن تنشر وسائل الإعلام السعودية رواية مرفوضة من الجهات الرسمية في بلدها.
لم تنشر الحكومة السعودية روايتها الرسمية الكاملة لحادثة تفجير الخبر، ولم تورد تفاصيل متعلقة بالتحقيقات والمحاكمات المتعلقة بالعملية. ولكن الحكومة أعلنت أنها تحتجز مجموعة من مواطنيها المنتمين لحزب الله الحجاز والمتهمين بعدة تهم منها تهريب مواد متفجرة والقيام بمراقبة وافدين غربيين (معظمهم من الأمريكيين) متواجدين على أراضي المملكة العربية السعودية. ربما يمكن تفسير هذا الموقف بناء على الاستراتيجية السعودية التي تهدف إلى تجنيب البلاد المشاركة في أي عملية انتقامية عسكرية من قبل الولايات المتحدة ضد إيران. أو قد تكون هناك حقائق أخرى يعتقد السعوديون أنه لا ينبغي نشرها في الوقت الحالي.
بالنظر إلى المعلومات التي قدمها فريه، والدعوى القضائية المرفوعة في يونيو/ حزيران ٢٠٠١، فإنه ثمة علامات استفهام كبيرة حول الموقف الأمريكي الرسمي أيضًا. نأخذ على سبيل المثال قصة هاني الصايغ، وهو أحد المتهمين الذي تم نقله من كندا إلى الولايات المتحدة عام ١٩٩٧ وقضى عامين في السجون الأمريكية قبل إعادته إلى السعودية. إن تسليم إدارة الرئيس كلنتون -التي كان فريه جزءًا منها حينها- الصايغ لحكومة بلاده أمر غير مفهوم. فلماذا يسلمونه لحكومة بلد آخر طالما كانوا ينوون رفع دعوى قضائية تتهمه بالمشاركة في "مؤامرة لاستخدام أسلحة دمار شامل ضد مواطنين أمريكيين"؟[26]
على صعيد آخر، وفي الوقت الذي أكدت فيه وسائل الإعلام الأمريكية والسعودية اتهام إيران بالتورط في عملية تفجير أبراج الخبر، يرى بعض الكُتاب بأن القاعدة -وليس الجماعة الشيعية- هي التي نفذت العملية. ويستشهدون ببعض النقاط، والتي من أبرزها تصريحات وليام بيري وزير الدفاع الأمريكي السابق -الذي كان في منصبه وقت حدوث العملية- حيث ورد من ضمن كلامه أنه "يعتقد أن أسامة بن لادن قد يكون هو العقل المدبر لتفجير برج الخبر." وتابع قائلاً: "لا يمكنني التأكد من ذلك، لكن بينما أنظر الآن لما حدث في الماضي، فإن هذا هو ما أؤمن به. في ذلك الوقت، لم يكن بن لادن مشتبهًا به. في ذلك الوقت ... كانت جميع الأدلة تشير إلى إيران."[27]
وفي السياق نفسه، كتب جاريث بورتر، المؤرخ والصحفي الاستقصائي الأمريكي، مقالاً بعنوان "استبعاد القاعدة من قائمة المشتبه بهم"، ملقيًا بظلال الشك على نتيجة تحقيق مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي خلص إلى اتهام إيران وبعض أتباعها السعوديين بالمسؤولية عن الهجوم. وبحسب بورتر، فقد "سارع فريه إلى تحميل الشيعة الإيرانيين والسعوديين مسؤولية التفجير، واستبعدوا من التحقيق فرضية أن تنظيم القاعدة الذي يتزعمه أسامة بن لادن نفّذ تفجير أبراج الخبر."[28]
وقد أتبع بورتر مقالته السابقة بأربع مقالات أخرى تدافع عن تحليله المختلف حول تفجير أبراج الخبر. ويتضح من تلك المقالات أنه يحمل تصورًا سلبيًا عن فريه، حيث رآه واقعًا تحت التأثير السعودي حسب وصفه. وفي هذا الصدد كتب بورتر: "لقد سمح فريه للسفير السعودي الأمير بندر بن سلطان بإقناعه بأن إيران متورطة في التفجير، وأن الرئيس بيل كلينتون 'الذي كان فريه يكرهه بشدة، ليس لديه مصلحة في الاعتراف بحقيقة أن إيران هي التي فجّرت الأبراج،' كما كتب فريه في مذكراته".[29] غير أن بورتر قد أغفل تصريح فريه بأن "بندر وافقه على أنه من الممكن [اتهام إيران والمتطرفين الشيعة، وليس المتطرفين السنة]، لكنه كان يشك في أن يكون الأمر كذلك".[30] وبحسب فريه، فقد أطلع السفير السعودي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي على بعض المعلومات دون أن يعبر عن يقين بشأن اتهام إيران أو جماعة شيعية متطرفة بالعملية.
استند بورتر في طرحه إلى تصريحات منسوبة إلى "مسؤولين سابقين في مكتب التحقيقات الفيدرالي شاركوا في التحقيق ورفضوا الكشف عن هويتهم". من المفهوم استخدام مصدر مجهول من أجل تدعيم الحجة؛ غير أنه من الصعب قبول سردية مبنية بالكامل على مصدر غير معروف. إن ما نشهده في طرح بورتر ببساطة أنه يضع حجية مصدر مجهول مقابل الرواية الصريحة لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالية.
تشكك أطروحة بورتر في مصداقية النظام الأمني الأمريكي بأكمله في عهد الرئيسين بيل كلينتون وجورج بوش الابن. وعليه، فإن السؤال الذي ينبغي طرحه على بورتر: لماذا تتعامل الإدارة الأمريكية مع عملية تفجير الخبر بهذا الشكل؟ يضاف لهذا السؤال حقيقة أن التوجه الأوسع لجاريث بورتر يثير أسئلة أخرى، حيث من الواضح أنه لا يدعم العلاقات القوية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، وهي نقطة وردت في عدد من مقالاته، ومنها: "حان الوقت لإنهاء التحالف الأمريكي المدمر مع المملكة العربية السعودية".[31]
وفي السياق الداعم لفرضية تحميل القاعدة مسؤولية تفجير الخبر، فإن عبدالباري عطوان الرئيس السابق لصحيفة القدس العربي اللندنية يصرّ على أن الهجوم يجب أن ينسب لأسامة بن لادن الذي سبق وأن أجرى -شخصيًا- حوارًا معه في عام ١٩٩٦. وقد دعم عطوان دعواه بتفصيلات محدودة للغاية، حيث كتب: "لقد قاتل الراحل أبو الليث الليبي في أفغانستان وعاد إلى ليبيا عام ١٩٩٤ على أمل القيام بثورة إسلامية، ثم فر بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية – حيث تورط في تفجيرات أبراج الخبر – قبل أن يعود إلى أفغانستان حيث أصبح أحد كبار قادة كتائب القاعدة في بلاد الشام التي تقاتل مع طالبان."[32] ولم تتضمن رواية عطوان أي تفاصيل عن دور أبو ليث الليبي وأعضاء الخلية الذين يفترض أنهم شاركوا في تنفيذ تفجير الخبر. الجدير بالذكر أن بن لادن لم يصدر بيانًا يعلن فيه المسؤولية، كما يفعل عادة في معظم العمليات التي نفذتها القاعدة، غير أنه بارك العملية في لقائه مع عبدالباري عطوان.
لا يمكننا إغفال حقيقة أن غياب روايات مفصلة من الحكومتين السعودية والإيرانية، إضافة لعدم وجود بيان صريح من تنظيم القاعدة حول التفجير سيجعل معظم السرديات المتناولة في الأبحاث ووسائل الإعلام تستند إلى الرواية الامريكية الرسمية. يبدو أن المعلومات الحساسة أو الحسابات السياسية تمنع الأطراف المعنية من نشر التفاصيل التي لديها. حتى ذلك الحين، سيتعين على المراقبين الاعتماد على المعلومات المتوفرة في الكتب والأبحاث ووسائل الإعلام والتي تستند في معظمها إلى الرواية الأمريكية، مع بعض الروايات المغايرة.
أبرز الأسماء المنتمية لحزب الله الحجاز:
معظم المصادر الأمريكية تشير إلى عبد الكريم حسين محمد الناصر بوصفه "الزعيم المزعوم لحزب الله الحجاز."[33] وتعرض الحكومة الأمريكية مكافأة قدرها خمسة ملايين دولار مقابل الإدلاء بمعلومات تؤدي إلى اعتقاله.[34] وبالرغم من أهمية هذه الشخصية، فإنه لا يوجد الكثير من المعلومات عنها. فلم يعرف عن الناصر كونه عالمًا أو خطيبًا بارزًا، كما أنه ليس من الشخصيات الاجتماعية البارزة في الأحساء، حيث محيطه الاجتماعي. من المثير للاهتمام للغاية أن الرجل الذي من المفترض أن يكون زعيمًا لمنظمة بهذه الخطورة غامضًا إلى المستوى الذي لا يتوفر وصف لدوره داخل المجموعة أو أي معلومات أو حتى شائعات حول مصيره الحالي. إن قائدًا لمنظمة خطيرة بوزن حزب الله الحجاز، يفترض أن يكون له دور واضح وأن تذيّل بياناتها باسمه. فرغم إصدار حزب الله الحجاز بيانات قليلة جدًا تتعلق بالشؤون السعودية في فترة ما بعد عام١٩٩٣، لم يذيّل أي منها باسم الشيخ عبدالكريم الناصر.[35]
من بين جميع العناصر المزعومين للمنظمة، يظل الاسم الأكثر تداولًا هو أحمد إبراهيم المغسل -الشهير بأبي عمران- وهو من أبناء القطيف وقد سبق له الانضمام للتيار الشيرازي قبل أن يحوّل وجهته إلى خط الإمام. ومنذ بداية التسعينيات حددت جميع التقارير الاستخباراتية شخصية الرجل بوصفه زعيم الجناح العسكري للجماعة الإسلامية الشيعية المتطرفة. وقد كان أبو عمران يتنقل متنكرًا بين إيران، لبنان، والسعودية بجوازات مزورة. وبناء على تفاصيل الدعوى القضائية الرسمية المقدمة لمحكمة فيرجينا، فإن المغسل متهم بالمسؤولية المباشرة عن التخطيط للهجوم وتدريب أعضاء الخلية المنفذة. وكما هو الحال مع الناصر، فإن الحكومة الأمريكية تعرض خمسة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي للقبض عليه. [36] هذه المكافأة أصبحت في حكم اللاغية بعد تمكن السلطات السعودية من القبض عليه في أغسطس/ آب ٢٠١٥ في عملية نوعية بمطار بيروت ونقلته للمملكة. [37]
يمثل هاني الصايغ الاسم الآخر الذي كثيرًا ما تناولته وسائل الإعلام. لقد كان أول الأسماء التي ذكرها فريه في مذكراته. وقد ذكر فريه بالتفصيل دور الصايغ في العملية بأنه كان سائق المركبة التي كانت تستكشف المكان وتوقفت في الزاوية البعيدة للمبنى ١٣١. وإلى جانب ذلك الدور، يشير ملف الدعوى القضائية إلى أن الصايغ شارك في جوانب أخرى مختلفة من العملية بما في ذلك إعداد تقارير مراقبة عن القوات الامريكية المتواجدة في مختلف مناطق المملكة العربية السعودية، إضافة إلى دوره في تحضير الشاحنة المُفخخة في إحدى مزارع القطيف. غير أن اتساع دائرة الاتهامات الموجهة للصايغ أمر يستحق التوقف عنده، فكيف لرجل ضعيف البنية ومصاب بالربو أن يقوم بكل هذه المهام؟ كذلك فإنه قد ذهب إلى كندا في أغسطس/ آب ١٩٩٦ واعتقل في مارس/ آذار ١٩٩٧ قبل أن تسلمه السلطات هناك إلى الولايات المتحدة في يونيو/ حزيران من العام نفسه. وتشير التقارير إلى أنه قد وافق على التعاون مع المحققين الأمريكيين كجزء من صفقة تتضمن الإقرار بالذنب، غير أنه تراجع لاحقًا عن موقفه وتقدم بطلب اللجوء في الولايات المتحدة.[38] في أكتوبر/ تشرين الأول ١٩٩٩، قالت وزارة العدل الامريكية إن "الولايات المتحدة تفتقر إلى الأدلة الكافية لتوجيه الاتهام إلى الصايغ في محكمة أمريكية." [39] وعليه، فقد تم ترحيله إلى المملكة العربية السعودية، حيث هو مسجون حاليًا.
بالنسبة لبقية الأسماء المتداولة، فهم إما رهن التوقيف في السجون السعودية مثل المغسل والصايغ، أو مصيرهم مجهول مثل الناصر. لا تحظى الأسماء المتبقية بمستوى أهمية هؤلاء الثلاثة، كما أن مساهماتهم المزعومة في تفجير أبراج الخبر توحي بأنهم مجرد جنود وليسوا قادة للتنظيم. [40]
يمتد الغموض ليكتنف الشخصيات الأجنبية المرتبطة بحزب الله الحجاز. فالشخصيات المزعومة المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني أو حزب الله اللبناني غير واضحة المعالم. ومن أبرز تلك الأسماء المتداولة بشكل كبير -بالذات في الإعلام العربي- ضابط إيراني اسمه أحمد شريفي. لا توجد تفاصيل عنه سوى ما يتم تداوله هنا وهناك. ولعل أول شخص أورد ذكر شريفي كان توماس فريدمان الذي نشر مقالًا في مارس/ آذار ١٩٩٧ ذكر فيه أن "ضابط استخبارات إيراني يتنقل بأسماء رمزية مختلفة، بما في ذلك "شريفي" و"أبو جلال"، عمل كحلقة وصل بين طهران والشيعة السعوديون في لبنان."[41]
يضاف إلى ذلك أن الدعوى القضائية المرفوعة في يونيو/ حزيران ٢٠٠١ المتعلقة بتفجير أبراج الخبر تتهم شخصًا مجهول الهوية بوصفه أحد عناصر حزب الله اللبناني، ويشار إليه في لائحة الاتهام باسم رمزي هو "جون دو." عندما تخضع هذه الادعاءات للتحليل، نجد أنه من المحتمل أن تكون هذه الأسماء مستعارة للأشخاص الذين عملوا كضباط اتصال مكلفين بربط حزب الله الحجاز بالأجهزة الإيرانية. ولكن يبقى التساؤل حول الكيفية التي توصلت وكالات الأمن الأمريكية مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي عن طريقها إلى هذه الافتراضات، أي كيف تأكدت من وجود عميل لبناني واحد فقط لحزب الله متورط في تفجير أبراج الخبر أو ضابط واحد فقط من أعضاء الحرس الثوري الإيراني يتعامل مع حزب الله الحجاز؟ والأهم من ذلك، يجب تفكيك هذه الافتراضات وتقديم مزيد من التفاصيل لشرح المقدمات التي أدت إلى هذه الاستنتاجات.
أحداث ٢٠١١:
بعد تفجير الخبر، غاب أنصار إيران-بمن فيهم حزب الله الحجاز- عن المشهد السعودي بشكل شبه تام. وفي الفترة التي سبقت اندلاع انتفاضات الربيع العربي في أجزاء مختلفة من العالم العربي، لم يكن أنصار إيران يشكلون تهديدًا خطيرًا لحكومات دول مجلس التعاون الخليجي. ومع اندلاع الأحداث في ٢٠١١، بدأت بعض دول الخليج بتوجيه الاتهامات الصريحة إلى إيران وعملائها المحليين بتنفيذ أعمال تخريبية.
في فبراير/ شباط ٢٠١١، بدأت الاحتجاجات في القطيف، المدينة السعودية ذات الغالبية الشيعية. تزامنت هذه الأحداث مع أحداث مماثلة في محيط المنطقة العربية، لاسيما في البحرين، البلد المجاور ذي الغالبية الشيعية. يعتبر أنصار هذه الاحتجاجات أنها كانت ضمن الربيع العربي، بينما تنظر لها الحكومات بشكل آخر. وبما أن تفاصيل هذه الأحداث يتجاوز نطاق هذا البحث، فإننا سنكتفي بالتركيز على تناول الدور المزعوم لأنصار إيران في هذه الأحداث التي امتدت بين ٢٠١١-٢٠١٧.
في البدء، كانت الشعارات التي رفعها المتظاهرون عامة جدًا وتتعلق بالمطالبة بالحرية، حقوق الشيعة، الكرامة، ومناهضة التمييز. غير أن مظاهرات ٩ و١٠ مارس/ آذار ٢٠١١ قد أخذت منحًا آخر، إذ رفع المتظاهرون صور "السجناء المنسيين" في إشارة إلى السجناء التسعة المحبوسين على ذمة قضية تفجير أبراج الخبر. وقد أصدرت السلطات السعودية في ذلك الوقت عدة بيانات تتهم إيران بالتدخل في الشؤون السعودية، الأمر الذي فعلته أيضًا الحكومة البحرينية. بالمقابل، كانت التصريحات الإيرانية الرسمية تدعم الاحتجاجات في السعودية والبحرين وتحمل الحكومتين الملكيتين مسؤولية التوترات بينها وبين مواطنيها.
حتى الآن، لا توجد رواية مفصلة حول التدخل الإيراني في الأحداث الواقعة بين ٢٠١١-٢٠١٧، غير أنه من الصعب تصور أن الإيرانيين كانوا مكتفين بدور المراقب للأحداث. وفقًا لبعض المراجع المحلية، فقد أقر بعض أفراد الشيعة السعوديين بتلقيهم تدريبات في إيران أو العراق. كان ذلك عن طريق استدراجهم للسفر لزيارة إيران أو العراق بهدف الزيارات الدينية أو لأسباب أخرى مماثلة ليجدوا أنفسهم في منشآت تدريبية. وبحسب هذه الروايات، لم تكن هناك تعليمات بشن هجمات ولم يتم تزويدهم بأسلحة. لقد تلقوا التدريب الأساسي فقط وتُركوا ليعودوا لبلادهم دون أن يتم التواصل معهم. وعلى الجانب السعودي الرسمي، لم تكشف الحكومة عن أي تفاصيل تتعلق بتدخل إيران في المنطقة في ذلك الوقت، ربما يعود ذلك لأسباب أمنية أو سياسية.
في مارس/ آذار ٢٠١٣، أعلنت الحكومة السعودية أنها "ألقت القبض على خلية تجسس مؤلفة من ١٨ عضوًا، بينهم إيراني ولبناني و١٦ سعوديًا".[42] وزاد عدد الموقوفين لاحقًا، وحكمت المحاكم السعودية على ١٥ سعوديًا بالإعدام بتهمة التجسس لصالح إيران، وعلى ١٥ آخرين بالسجن لمدد تتراوح بين ستة أشهر و٢٥ عامًا. [43]وفي ٢٣ أبريل/ نيسان ٢٠١٩، نفذت السلطات السعودية حكم الإعدام في ١١ عنصرًا من هذه المجموعة. بالمقابل، نفت السلطات الإيرانية أنها جندت جواسيس في الداخل السعودي؛ في الوقت الذي أصرت الرياض فيه على تورط طهران في التدخل في شؤونها الداخلية.
وبالرغم من جميع الأحداث خلال هذه الفترة، لم يتم تحميل حزب الله الحجاز رسميًا المسؤولية عن أي من هذه الأنشطة غير القانونية. لكن السلطات السعودية أدرجته في قائمة الجماعات الإرهابية في مارس/ آذار ٢٠١٤،[44] وحذت دولة الإمارات العربية المتحدة حذوها وأدرجت حزب الله الحجاز في قائمة الجماعات الإرهابية في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه. [45]
خاتمة:
يستمر التوتر الممتد بين إيران والسعودية بوصفه قضية أساسية في المنطقة، فالدولتان مختلفتان في الرؤى والاستراتيجيات حول مستقبل منطقة الشرق الأوسط بشكل يصل حد التناقض. وفي الوقت الذي تتهم السعودية إيران بالتدخل في شؤونها الداخلية، تنفي إيران تلك المزاعم. وفي هذا الصدد، يدخل المجتمع الشيعي السعودي كجزءٍ من هذا التوتر، حيث تتهم الرياض طهران بتجنيد بعض مواطنيها الشيعة لخدمة مصالحها من خلال مجموعات مثل حزب الله الحجاز بوصفه المنظمة السرية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني.
يُتّهَمُ اتباع مرجعية الخامنئي -الذين يلقبون بخط الإمام- بكونهم أعضاء في حزب الله الحجاز. لكن هذه الورقة توضح أن العلاقة بين خط الإمام وحزب الله الحجاز محدودة جدا. فالكثير من أتباع خط الإمام يتعاملون مع الخامنئي بوصفه مرجعًا فقهيًا تقليديًا، ويستلهمون دروسًا روحية من الخميني (العرفان) وهذا ما يدفعهم إلى التعلق بعلماء إيرانيين غير مسيسين مثل الشيخ محمد تقي بهجت الفومني والشيخ جوادي الآملي.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار الأثر الإيراني على بعض الشيعة السعوديين. من الصعب تحديد مستوى ذلك الأثر، نظرا لمحدودية المعلومات المتوفرة حول الهجمات التي حصلت في التسعينيات وعلى رأسها تفجير أبراج الخبر.
على الصعيد الداخلي، تقوم الحكومة السعودية بعدة إصلاحات فيما يخص مسألة نزع التطرف، ومن أبرز تلك الإصلاحات تقليص الخطاب الطائفي في وسائل الإعلام الوطنية. وخلال السنوات الأربع الماضية، بدأت وسائل الإعلام السعودية في التفريق بين تناول طموحات إيران كقوة إقليمية وبين الشيعة كطائفة إسلامية. وقد لقي هذا التغيير في الخطاب الإعلامي استحسانًا من المجتمع الشيعي السعودي الذي يرفض أبناؤه أن يكونوا مستهدفين من قبل مواطنيهم عن طريق اتهامهم بأنهم طابور خامس لدولة أجنبية.
حقيقة لابد من أن تسجل في ختام هذه الورقة البحثية، هي أنه بالرغم من أن عددًا من شيعة المملكة قد تأثروا بكاريزما السيد الخميني في فترة الثمانينيات، إلا أنه لم يكن يمثل المرجعية الدينية العليا لكثير منهم، بل إن مرجعيته لم تحظَ بشعبية كبيرة في الوسط الشيعي في المملكة العربية السعودية. لكن الأمر تغير مع جيل الشباب في التسعينيات - أولئك الذين ولدوا قبل سنوات قليلة من الثورة الإيرانية - والذين صار مرجعهم الأعلى هو السيد الخامنئي. غالبية هؤلاء الذين يقلدون الخامنئي اليوم يزعمون أن العلاقة معه فقهية بحتة تمامًا مثل علاقة مقلدي السيد السيستاني بمرجعهم، أو مقلدي بقية المراجع لمراجعهم. غير أن السؤال الذي يجدر طرحه هنا هو: ماذا بعد الخامنئي؟ هل سيرجع هؤلاء فقهيًا إلى المرشد الأعلى المقبل لإيران؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فإن الأمر يعني أن موقع المرجعية بالنسبة لخط الإمام قد تجاوز مجرد مسألة الموقع الفقهي ليشكل موقعًا سياسيًا أيضًا. سيتضح هذا الأمر في حال تبنت غالبية خط الإمام مرجعية المرشد الأعلى المقبل. يتوقع الكثير من المراقبين أن السيد إبراهيم رئيسي -الرئيس الإيراني الحالي- سيكون هو المرشد القادم. بالتالي، علينا الانتظار لنرى ما إذا كان السيد رئيسي - أو أي شخص آخر يتولى هذا المنصب - سيحظى بنسبة معتبرة من المقلدين لمرجعية طهران.
بينما لا تزال هناك الكثير من الأسئلة حول حزب الله الحجاز مفتوحة للنقاش، تكشف هذه الورقة عن خلفية المصادر الرئيسية المحدودة التي شكلت البنية المعرفية التي انطلقت منها معظم المواد التي تناولت الموضوع. وبعيدًا عن الدعايات التي تتبع أجندة الأطراف المتنازعة، فإن هذه الورقة تقدم سردية متماسكة بناءً على المعلومات المتاحة بعد تدقيقها بشكل علمي. ولعل الباحث في هذا الشأن يجد في هذا العمل مفتاحًا ليبدأ من حيث انتهت هذه الورقة.
[1] Khalaji, Mahdi (2006). The Last Marja: Sistani and the End of Traditional Religious Authority in Shiism. Washington Institute for Near East Policy. Pp. V. https://www.washingtoninstitute.org/media/3502?disposition=inline
[2] Matthiesen, Toby (2010). "Hizbullah al-Hijaz: A History of The Most Radical Saudi Shi'a Opposition Group." The Middle East Journal 64, no. 2 https://muse.jhu.edu/article/380306
[3] Sahimi, Muhammad (January 3, 2016). Who Will Succeed Ayatollah Khamenei? HuffPost News. https://www.huffpost.com/entry/ayatollah-khamenei-successor-_b_8908618
[4] اقتصرت أنشطة الشيرازية في السعودية على العمل الإعلامي. بينما نشطوا ميدانيًا في البحرين وشارك بعض العناصر السعوديين في محاولة الانقلاب البحريني عام ١٩٨١.
[5] Matthiesen, T. (2014). The other Saudis: Shiism, dissent and sectarianism (Vol. 46). Cambridge University Press. P. 133.
[6] Bowden, Mark (May 2006). The Desert One Debacle. The Atlantic. https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2006/05/the-desert-one-debacle/304803/
[7] Alrebh, Abdullah (March 2021). Radical shiism and Iranian influence in Saudi Arabia. Interview with European Eye on Radicalization. https://eeradicalization.com/radical-shiism-and-iranian-influence-in-saudi-arabia/
[8] Matthiesen (2014) pp. 133-134, see also Matthiesen (2010) p. 184.
[9] ووقعت الحادثة في مكة، ودارت الاشتباكات في بعض الشوارع المجاورة للحرم المكي. وبدأت الاشتباكات عندما احتشد بعض الحجاج الإيرانيين بعد صلاة الجمعة للقيام بمظاهرة سياسية، وهذا أمر محظور في القانون السعودي. هتف الحجاج الذين كانوا يلوحون بصور آية الله الخميني "الموت لأمريكا! الموت للاتحاد السوفياتي! الموت لإسرائيل!'' وتسبب الحادث في مقتل ٤٠٠ حاج. المصدر: نيويورك تايمز. https://www.nytimes.com/1987/08/02/world/400-die-iranian-marchers-battle-saudi-police-mecca-embassies-smashed-teheran.html
[10] Matthiesen (2010), pp. 183-184.
[11] مقابلة خاصة مع عضو سابق في منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية كان مقربًا جدًا من المغسل أيام كان شيرازيًا. وقد تم إخفاء هويته بناء على طلبه.
[12] Fawzy, Muhammad (January -March 2015). "Iran and Hizbullah: A Very Special Relationship." Annals of the Faculty of Arts, Ain Shams University, (43) 453-506.
[13] Ibrahim, Fouad N. (2006). The Shiʻis of Saudi Arabia. London: Al Saqi. P. 142.
[14] أرشيف جريدة الديار اللبنانية
٢٧ أكتوبر ١٩٨٨::
https://addiyar.com/article/607793-الصفحة-11-27101988
١٠ يناير ١٩٨٩:
https://addiyar.com/article/643221-الصفحة-10-1011989
[15] Teitelbaum, Joshua (Nov 14, 1996). Saudi Arabia's Shi`i Opposition: Background and Analysis. The Washington Institute for Near East Policy. https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/saudi-arabias-shii-opposition-background-and-analysis
[16] Matthiesen (2014) p. 137.
[17] جميعهم حاليا رهن الإيقاف والمحاكمة في السجون السعودية.
[18] Jamieson, Perry. D. (2008). Khobar Towers: Tragedy and Response. Government Printing Office. pp. 9-13.
[19] Riedel, Bruce (June 21, 2021). Remembering the Khobar Towers bombing. Brookings. https://www.brookings.edu/blog/order-from-chaos/2021/06/21/remembering-the-khobar-towers-bombing/
[20] Cordesman, Anthony H. and Nawaf Obaid (January 26, 2005). Al-Qaeda in Saudi Arabia: Asymmetric Threats and Islamist Extremists. Center for Strategic and International Studies (CSIS). Washington, DC https://csis-website-prod.s3.amazonaws.com/s3fs-public/legacy_files/files/media/csis/pubs/050106_al-qaedainsaudi.pdf
[21] Freeh, L. J., & Means, H. B. (2006). My FBI: Bringing down the Mafia, investigating Bill Clinton, and fighting the War on Terror. MacMillan. P. 9.
[22] Freeh & Means (2006), p. 10.
[23] Kirkpatrick, David D. (August 26, 2015). Saudi Arabia Said to Arrest Suspect in 1996 Khobar Towers Bombing. The New York Times. https://www.nytimes.com/2015/08/27/world/middleeast/saudia-arabia-arrests-suspect-khobar-towers-bombing.html
[24] UNITED STATES DISTRICT COURT EASTERN DISTRICT OF VIRGINIA- ALEXANDRIA DIVISION (June 2001 TERM). Conspiracy to Kill United States Nationals. CRIMINAL NO: 01-228-A. https://nsarchive2.gwu.edu/NSAEBB/NSAEBB318/doc05.pdf
[25] Levitt, Matthew (2015). Hezbollah: The Global Footprint of Lebanon's Party of God. Georgetown University Press. pp. 181-208.
كرر ليفي القصة نفسها بتفاصيلها في مقال آخر نشره في مجلة الفورين بوليسي:
“Anatomy of a Bombing: How Ahmed al-Mughassil Bombed Khobar Tower and Walked Free—Until Now” which was publish by Foreign Affairsin September 1, 2015. https://www.foreignaffairs.com/articles/lebanon/2015-09-01/anatomy-bombing
[26] انظر الصفحة الأولى من ملف القضية المشار إليه في هامش سابق.
[27] United Press International, Inc. (June 6, 2007). Perry: U.S. eyed Iran attack after bombing. https://www.upi.com/Defense-News/2007/06/06/Perry-US-eyed-Iran-attack-after-bombing/70451181161509/?u3L=1
[28] Porter, Gareth (June 22 2009). EXCLUSIVE-PART1: Al Qaeda Excluded from the Suspects List. Inter Press Service. https://www.ipsnews.net/2009/06/exclusive-part1-al-qaeda-excluded-from-the-suspects-list/
[29] المرجع السابق
[30] Freeh & Means, P. 9.
[31] Porter, Gareth (October 26, 2018). Time to End the Ruinous U.S. Alliance with Saudi Arabia. Common Dreams (originally published with Middle East Eye). https://www.commondreams.org/views/2018/10/26/time-end-ruinous-us-alliance-saudi-arabia
[32] Atwan, A. B. (2013). After bin Laden: Al Qaeda, the next generation. The New Press. P. 202.
[33] FBI Most Wanted List. https://www.fbi.gov/wanted/wanted_terrorists/abdelkarim-hussein-mohamed-al-nasser
[34] The announcement is available on the Department of Justice website: https://rewardsforjustice.net/rewards/abdelkarim-hussein-mohamed-al-nasser/
[35]على سبيل المثال، البيان التالي يتعلق بعمليات الإعدام التي نُفِّذت في مارس ٢٠٢٢، ونُشر البيان في موقع إلكتروني معارض بحريني:
https://www.al-abdal.net/32273/حزب-الله-الحجاز-مجزرة-شعبان-الكبرى/
[36] FBI Most Wanted List. https://www.fbi.gov/wanted/wanted_terrorists/ahmad-ibrahim-al-mughassil
[37] Riedel, Bruce (August 26, 2015). Captured: Mastermind behind the 1996 Khobar Towers attack. Brookings. https://www.brookings.edu/blog/markaz/2015/08/26/captured-mastermind-behind-the-1996-khobar-towers-attack/
[38] Levitt, p. 200.
[39] Karon, Tony (October 5, 1999). The Curious Case of Hani al-Sayegh. TIME. http://content.time.com/time/magazine/article/0,9171,31972,00.html
[40] جميع الأسماء الأخرى متوفرة في ملف القضية المذكورة
UNITED STATES DISTRICT COURT EASTERN DISTRICT OF VIRGINIA, p. 1
[42] USA Today. (March 26, 2013). Saudi Arabia says spy ring worked for Iran. https://www.usatoday.com/story/news/world/2013/03/26/saudi-arabia-spy-iran/2020799/
[43] BBC. (December 6, 2016). Fifteen Saudi Shia sentenced to death for 'spying for Iran'.
[44] Youssef, B. A. & Adam Baron (March 7, 2014). Saudi Arabia declares Muslim Brotherhood a terrorist group. Kansascity. https://www.kansascity.com/2014/03/07/4873900/saudi-arabia-declares-muslim-brotherhood.html#storylink=cpy
[45] وكالة أنباء الإمارات. (١٥ نوفمبر ٢٠١٤). مجلس الوزراء يصادق على لائحة التنظيمات الإرهابية.
The Middle East Institute (MEI) is an independent, non-partisan, non-for-profit, educational organization. It does not engage in advocacy and its scholars’ opinions are their own. MEI welcomes financial donations, but retains sole editorial control over its work and its publications reflect only the authors’ views. For a listing of MEI donors, please click here.