الملخص
يتبع المسلمون الشيعة نظاما تراتبيا في الشأن الفقهي. يتربع على رأس هرم القيادة الدينية مجموعة من العلماء الكبار يلقبون بـ"المراجع". يتبع كلّ مرجع شيعي عدد كبير من المقلدين الذين يتبعون فتاواه في الأمور العبادية والشؤون الحياتية، وفي بعض الأحيان تشمل الفتاوى والتوجيهات الشؤون السياسية. معظم مراجع الشيعة المقلَّدون اليوم هم في الأصل مواطنون إيرانيون يعيشون في إيران أو العراق. يتوزع مقلِّدو هؤلاء المراجع على جميع دول العالم، ومنها دول الخليج العربية التي ذات الغالبية السنية والمحكومة من قبل حكومات سنية. وفي ضوء التوتر الحالي بين إيران وهذه الدول الخليجية، تتحفظ هذه الحكومات العربية على العلاقة بين مواطنيها الشيعة والمرجعيات الإيرانية.
تحاول هذه الورقة مقاربة التبعات السياسية للعلاقة بين شيعة دول الخليج العربية ومراجع الدين في الخارج، كما تنظر في الخلفية التاريخية لهذه العلاقات وتحفظات دول الخليج على مسألة تدفق أموال الحقوق الشرعية للخارج، خصوصا إيران. عند بعض هذه الدول، ترتبط هذه الشؤون بمسألة الولاء الوطني. يرى الباحثان أن ظهور مرجع ديني مقيم في إحدى دول مجلس التعاون الخليجي قد يساعد في إزالة هذه المخاوف. يقدّم الباحثان قائمة بأسماء بعض المرشحين المؤهلين للمرجعية ويقترحان خطوات يمكن أن تتخذها دول الخليج العربية من أجل تهيئة الظروف المناسبة لتحول مواطنيهم إلى تقليد مراجع مقيمين في دول الخليج
مقدمة
يتبع المسلمون الشيعة سلسلة تراتبية من الزعامات الدينية المؤسسة على الأعلمية في الفقه. يمثل المجتهدون (العلماء الحائزون على درجة الاجتهاد وملكة استنباط الأحكام الشرعية) نخبة يمتلك أفرادها حصريا حق إصدار الفتوى الدينية. يمكن للمجتهد أن يرتقي إلى مرتبة "مرجع التقليد" ليقلده عوام الشيعة من غير المجتهدين، وهذا أمر متاح لأيّ مجتهد يستطيع إثبات أهليته العلمية وتفوقه في الفقه والعلوم المتعلقة به.[1] كما يمكن لأيّ مجتهد من كبار الفقهاء أن يتصدى للمرجعية من خلال إعلان مرجعيته، لكنّ ذلك بحد ذاته لا يضمن له عدداً كبيراً من المقلدين، فثمة عنصرين أكثر أهمية لبلوغ مقام المرجعية؛ هما الأعلمية والورع في أمور الدين والدنيا. مركز القيادة الشيعية اليوم هي النجف الأشرف، في العراق، وتليها قم، في إيران. في حين يهيمن المجتهدون الإيرانيون عددياً على المدرستين، يوجد اليوم في العراق أكثر من عشرين مجتهداً من المتصدين للمرجعية بينهم خمسة أو ستة يشيع الاعتراف بمرجعيتهم بشكل واسع، وثمةَ ثلاثون عالماً أو أكثر يتصدون للمرجعية في إيران بينهم خمسة أو ستة يتفوقون على الآخرين في شيوع مرجعيتهم وتعدد مقلديهم. ويتبع معظم الشيعة في العالم مراجع مقيمين في هذين البلدين (العراق وإيران) ويلتمسون منهم الإرشاد الروحي والفقهي ويدفعون لهم، أو لوكلائهم، الخمس[2] وبقية الالتزامات المالية (الحقوق الشرعية).
يقدّر عدد الشيعة في العالم اليوم بين 200 و 250 مليوناً ويشكلون الأغلبية السكانية في إيران والعراق والبحرين وأذربيجان، وهم أيضاً أقليات وازنة في الهند وباكستان وأفغانستان ولبنان واليمن والمملكة العربية السعودية والكويت وغيرها، حيث يوجد الشيعة في دول عديدة بقارات آسيا وأفريقيا وأوربا والقارتين الأميركيتين. ويعيش نصف الشيعة، أو أكثر من نصفهم، خارج العراق وإيران اللتين تحتضنان الزعامة الدينية والروحية ومقرّ إقامة المراجع الكبار. ويتنوع تقليد الشيعة للمراجع من حيث التركيز والنطاق اعتماداً على رؤى كل مرجع وعلى التقاليد الاجتماعية لكل مجتمع. يشكل التقليد في الأمور الروحية والعبادية والفقهية في المعاملات أكثر أنواع التقليد شيوعاً، خصوصاً فيما يتعلق بأمور الأحوال الشخصية والتعاملات الاقتصادية من بيع وشراء ومكاسب. لكن من الشائع أيضاً في بعض المجتمعات الشيعية أن تتسع دائرة التقليد لتشملالأمور السياسية والأعمال العسكرية.
منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979، أظهرت بعض الدول العربية التي لديها مجتمعات شيعية كبيرة تحسسها من القيادات المرجعية الإيرانية العابرة للحدود. وقد كان لدى الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي قلق شديد تجاه العلاقة بين مواطنيها الشيعة ومراجعهم الدينيين الذين يقيمون خارج الحدود. إن تاريخ المجتمعات الشيعية في دول مجلس التعاون الخليجي يسبق تحول إيران إلى دولة ذات أغلبية شيعية في القرن السادس عشر الميلادي، لكن ظهور حكومة دينية شيعية، بالتزامن مع زعامة المجتهدين الإيرانيين في العراق، ضاعف من قلق حكومات دول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصاً في ضوء التأثير الإيراني الواضح في المشهد اللبناني منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفي العراق منذ إسقاط نظام حزب البعث في العام 2003.
في الآونة الأخيرة، تصاعدت دعوات بعض المجتمعات المحلية الخليجية مدعومة ببعض رجال الدين المحليين إلى تصدي مرجع خليجي من أجل أن تكون القيادة الدينية نابعة من رحم المجتمع الخليجي. هذه التطلعات أبداها للمؤلفَيْن بعض المسؤولين في مجلس التعاون أيضاً. في هذا البحث يحاول المؤلفان تقصّي إمكانية ظهور مرجع، أو أكثر من مرجع، في شبه الجزيرة العربية في المستقبل القريب.
نحاول هنا أن نبحث في إمكانية وجود مرجع (بدرجة آية الله العظمى) في إحدى دول مجلس التعاون الخليجي التي يشكل الشيعة عدداً كبيراً من سكانها (خصوصاً المملكة العربية السعودية أو البحرين) في السنوات القليلة القادمة. ففي السنوات المائة الماضية اعتادت القيادات الدينية الشيعية على الإقامة في النجف (العراق) أو قم (إيران)، ومع استثناء نادر هو آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله، لم يظهر مرجع بارز في أي مجتمع شيعي خارج العراق وإيران.
إنّ التزام الشيعة من مواطني دول مجلس التعاون الخليجي بتقليد مجتهدين أجانب وإرسال الحقوق الشرعية إليهم (الخمس والزكاة والصدقات) ما يكون مخالفاً للقوانين المحلية، بل ويثير أمام السلطات المحلية تساؤلاً حول ازدواجية الولاء.[3] إن ظهور مرجع عربي من مواطني دول مجلس التعاون الخليجي قد لا ينهي مشكلة التوتر الطائفي، ولكنه سيساعد بكل تأكيد في إزالة الشكوك في مسألة الولاء الوطني للمواطنين الشيعة.
وبالنظر إلى التغيرات السياسية والاجتماعية السريعة في دول مجلس التعاون الخليجي، قد لا يمرّ وقت طويل حتى نرى أحد المؤهلين للمرجعية يعلن تصديه لهذا الموقع، خصوصاً وأننا نقترب من بدء "مرحلة ما بعد السيستاني" (تجاوز عمر آية الله العظمى السيد علي السيستاني التسعين عاماً). في الوقت الحالي، يعتبر آية الله العظمى السيد علي السيستاني شخصية عملاقة في هرم القيادة الدينية الشيعية،[4] وما دام على قيد الحياة فسيستمرّ إحجام جميع المرشحين المؤهلين لخلافته، من الجيل الذي يليه، عن إعلان تصديهم لموقع المرجعية احتراماً له. لكن رحيل السيستاني سيترك فسحةً لعدد من المؤهلين لخلافته،من ضمن هؤلاء علماء دين سعوديون وبحرينيون. وفي ضوء التوتر الحالي بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، وهو أمر يضع مواطني مجلس التعاون في موقف حرج جداً، فإنّ خلافة السيستاني من قبل مرجع من دول الخليج لن تكون مجرد خلافة مرجعية وإنما ستكون حدثاً سياسياً سيؤثر على قدرة إيران على التأثير على الشيعة العرب في المنطقة، وهذا أمر جيو-سياسي يحتاج صناع القرار السياسي إلى تفهمه والاستعداد للتعامل معه في المرحلة المقبلة.
عقدة الولاءات: الدين والدولة
منذ بداية تأسيس دول مجلس التعاون الخليجي واجه مواطنوها الشيعة مأزقاً ، فهم مواطنون في دول تأسست على مساحات جغرافية امتدّت فيها جذورهم على مدى قرون من الزمن، ومن جهة أخرى فإنهم وجدوا أنفسهم مستبعدين من مواقع صنع القرار، أو غير ممثلين بما يتناسب وحجمهم الديموغرافي. يزداد هذا الوضع حدةً مع تقليد الشيعة لمراجع دين أجانب يقيمون في إيران أو العراق. لا تخفي حكومات دول مجلس التعاون مخاوفها بسب تقليد مواطنيها لمراجع إيرانيين، ينتمون إلى دولة تعتبرها هذه الحكومات توسعية ومهددةً لمصالحها، في حين ذهب بعض الشخصيات العامة إلى حد اتهام الشيعة بانعدام الولاء لدولهم العربية والعداء لها.
مصدر القلق الثاني هو تحويل مبالغ الحقوق الشرعية والذي يعتبر في بعض دول المنشأ نوعاً من الدعم لدولة، أو قيادات، أجنبية، وإن كان فرضاً دينياً إسلامياً حسب الفقه الشيعي ويدفع إلى المراجع الذين يوزعونه بدورهم على مشاريع خيرية يتبناها المرجع دون تدخل للدولة التي يقيم فيها في عملية صرفه للأموال. ويتفاقم هذا القلق حين يكون تحويل الأموال غير مسجّل أو ينقل على شكل أوراق نقدية وليس من خلال التحويلات المصرفية التي يمكن تتبع خط سيرها. لدول الخليج قوانين وتعليمات واضحة بخصوص التعاملات المالية كجزء من مكافحة غسيل الأموال وبعض أشكال الدعم للإرهاب، وهذه القوانين غالباً ما تؤثر على مواطنيها الشيعة الذين يدفعون الحقوق الشرعية لمراجع يقيمون في إيران أو العراق. لذلك يواجه شيعة الخليج غالباً مأزقا صعباً في الاختيار بين الامتثال لقوانين بلادهم والمخاطرة بمواجهة المساءلة القانونية أو مخالفة واجباتهم الدينية وإبراء ذممهم. قد يكون مقلدو السيد السيستاني في وضع أقل حرجاً لأنه يفتي بأولوية إنفاق الحقوق الشرعية في بلد المكلّف (دافع الخمس) ويفوض وكلائه بإنفاق مبالغ ضخمة على مشاريع خيرية وخدمات تصبُّ في منفعة مجتمعاتهم التي تقدّم هذه الأموال، وهو بذلك قد ردم الفجوة بين مقلديه حول العالم وحكومات الدول التي ينتمون إليها أو يقيمون فيها.
إن ظهور مرجع من مواطني إحدى دول مجلس التعاون من شانه أن يقدّم حلاً معقولاً لكلّ من المشكلتين المذكورتين أعلاه، التحويلات المالية والعلاقات مع جهات أجنبية. بغضّ النظر عن كون المرجع مقيماً في البحرين أو المملكة العربية السعودية، فإنه سيمثل حلاً سياسياً لقلق حكومات مجلس التعاون الخليجي بشأن علاقة مواطنيها بالعراق وإيران. لكنّ مشكلة واحدة لن يحلها وجود مرجع خليجي؛ هي مشكلة الريبة والاحتقان الطائفي، تلك المشكلة التي تنتشر في المجتمعات الخليجية. ولكن الشيء الإيجابي في الموضوع هو أن هذه المشكلة ستفقد الغطاء الحالي الذي يقدم لها تبريرات متعددة بسبب إزالة ذريعتها. سيتعين على حكام دول مجلس التعاون الخليجي تبني فكرة المرجع المحلي كبديل أفضل للوضع الراهن. لقد فشلت عقود من التوتر في تحقيق أي نتيجة غير المزيد من عزلة شريحة مهمة وأصيلة من النسيج الوطني لهذه الدول، وأصبحت تعبيراتهم عن القلق من التعاطف مع قوى خارجية دافعاً لبعضهم إلى الارتماء في أحضان الخارج.
وعلى الصعيد العالمي، ينظر المجتمع الدولي إلى الحقوق الدينية للمواطنين، وخصوصاً الأقليات بوصفها أولوية، فباتت الدول التي تنتهكها عرضة للانتقاد العلني، لذلك يجب أن تولي جميع الدول، وخصوصاً دول الخليج، اهتماماً جديًّا لهذا الأمر.
"تقوم العلاقة بين رجال الدين المحليين (الوكلاء) والمراجع الكبار في الخارج على ما يمكننا أن نصفه بـ"الشرعية المتبادلة
المرجعية في دول الخليج العربية: عرض تأريخي مختصر
تاريخياً، فإن الشيعة في الجانب العربي من الخليج كانوا يقلدون مراجعهم المحليين، بل إن المرجعية المحلية كانت تهيمن على مجتمعات المنطقة حتى تراجع نفوذها في الربع الثاني من القرن العشرين. لقد أدت وفاة آخر المراجع المحليين وعودة موجة من الطلاب الخليجيين من النجف ليكونوا وكلاء لمراجع العراق الكبار إلى تغيير في بنية التقليد من المرجعيات المحلية إلى المرجعيات العابرة للحدود. من بين أولئك المراجع الخليجيين كان في الأحساء[5] السيد هاشم السلمان (ت 1892) والشيخ محمد أبو خمسين (ت 1901) والشيخ محمد العيثان (ت 1913) والشيخ موسى أبو خمسين (ت 1932)، وكان في القطيف الشيخ علي أبو عبد الكريم الخنيزي (ت 1943) وعمه الشيخ علي أبو الحسن الخنيزي (ت 1944) والسيد ماجد العوامي (ت 1948)، وفي البحرين حيث كانت المدرسة الأخبارية هي السائدة، والتي لا تفرض تقليد المراجع الأحياء، كان الناس يقلدون مراجع رحلوا في القرن الثامن عشر من أمثال الشيخ حسين العصفور (ت 1801) والشيخ عبد الله الستري (ت 1851)، ولا يزال بعض الشيعة يقلدونهم حتى اليوم لكن عددهم في تناقص مستمر لصالح مراجع النجف وقم المعاصرين. وعلى الرغم من كون الشيخ محمد أمين زين الدين (ت 1998) قد ولد ونشأ في العراق، فإن بعض الباحثين يعدونه من مراجع البحرين بسبب انتمائه الأسري لعائلة بحرانية، فقد هاجر جده من البحرين. لا يزال لزين الدين والعصفور مقلدون في البحرين والقطيف، لكن عددهم في تناقص تدريجي مع ميل الجيل الجديد إلى تقليد المراجع الأصوليين المعاصرين.
لقد نال المراجع المحليون في تلك الفترة احترام قادة المجتمع وحكام المنطقة. وبنظرة سريعة على أسمائهم، نلحظ أن معظم هؤلاء المراجع ينتمون إلى عوائل عريقة في المنطقة. كانت تلك العوائل متمكنة من تقديم الدعم المادي لأبنائها الذين يرغبون في الدراسة الدينية من أجل أن يتفرغوا للدراسات الديني في مرحلة ما قبل النفط، حين كانت معظم الأسر تحتاج إلى جهود جميع أبنائها في سوق العمل حتى توفّر قوت يومها. في الوقت نفسه، فقد كان أفراد الأسر العريقة يتقاسمون النفوذ: إذ يمتلك التجار وأصحاب الأرض النفوذ الاجتماعي والاقتصادي بينما يمتلك رجال الدين منهم السلطة الدينية.[6] بعد ذلك توسعت دائرة القادرين على الانتظام في الدروس الدينية لتشمل أبناء الأسر الأخرى فهاجر عدد منهم إلى النجف للدراسة في الحوزة (المدرسة الدينية التقليدية) ليعودوا بعد ذلك بصفتهم وكلاء لمراجع النجف الكبار في وقت تزامن مع وفيات كبار المراجع المحليين
شيعة الخليج ومراجع الخارج
ضمت موجة طلبة النجف العائدين إلى البحرين والمملكة العربية السعودية[7] في النصف الأول من القرن العشرين عدداً من رجال الدين ذوي التعليم العالي الذين بدأوا في الترويج لآيات الله العظمى المقيمين في العراق من أمثال السيد أبو الحسن الإصفهاني (ت 1946) والشيخ محمد رضا آل ياسين (ت 1951) والسيد محسن الحكيم (ت 1970). وحين انقسمت المرجعية بين النجف وقم بعد وفاة الحكيم استمر تقليد المرجع الأعلى في النجف إذ بدأ المتشرعون بتقليد آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي (ت 1992)، وبعد وفاة السيد الخوئي قلّد معظم شيعة الخليج آية الله العظمى محمد رضا الكَلبايكَاني الذي توفي هو أيضاً بعد وفاة السيد الخوئي بعام واحد. ومنذ العام 1993 أصبح آية الله العظمى السيد علي السيستاني المرجع الأعلى الذي يقلده أغلبية الشيعة في العالم، بمافيهم أغلب شيعة الخليج. لكنّ عدداً كبيراً من الشيعة في دول مجلس التعاون الخليجي رجعوا في التقليد إلى مراجع آخرين من أمثال الشيخ الوحيد الخراساني والسيد صادق الشيرازي (في قم) والمرشد الأعلى في إيران السيد علي الخامنئي، بالإضافة إلى أولئك الذين استمروا في تقليد المرجع اللبناني السيد محمد حسين فضل الله (ت 2010).[8]
تقوم العلاقة بين رجال الدين المحليين (الوكلاء) والمراجع الكبار في الخارج على ما يمكننا أن نصفه بـ"الشرعية المتبادلة". ففي حين يثبت المرجع أعلميته في الحوزات العراقية أو الإيرانية أو اللبنانية، ينشغل الوكلاء بالترويج لمرجعيته ويقنعون الناس في مجتمعاتهم بتقليده. ينال رجال الدين المحليون ذوو الشعبية الكبيرة في مناطقهم شرعيتهم من كونهم وكلاء وممثلين للمراجع الذين ينوبون عن الإمام الغائب (الذي بدأت غيبته حسب المعتقد الشيعي في العام 260 للهجرة وسيظل غائباً حتى ظهوره في نهاية الزمان ليعيد للأرض العدل والسلام). لكن المرجع الذي يمتلك نفوذاً وتأثيراً في الحوزة التقليدية يحتاج إلى مقلدين يتبعون فتاواه ويسترشدون برأيه. المفتاح الأهم في ذلك للمجتهد الذي يطمح إلى المرجعية من أجل الحصول على مقلدين كثر هو استقطاب الوكلاء الأكفاء القادرين على دعم مرجعيته والترويج لها مقابل المراجع الآخرين، وهذا هو ما يفسر نجاح بعض المراجع المقيمين في النجف وقم في استقطاب المقلدين في المجتمعات الخليجية.
جزء كبير من الوكلاء في دول الخليج هم في الأساس من ذوي التحصيل العلمي العالي، بل إن بعضهم قد بلغ درجة الاجتهاد. وهؤلاء يتمتعون باحترام كبير لدى مجتمعاتهم والمسؤولين في دولهم، فعلى سبيل المثال كان الشيخ محمد الهاجري (ت 2004) مجتهداً معروفاً وقاضياً في وزارة الأوقاف والأحوال الشخصية التي تشرف على تنفيذ قوانين الأحوال الشخصية للمجتمع الشيعي في الأحساء (كالزواج والطلاق والميراث والأوقاف الدينية، ويوجد قاض شيعي آخر في القطيف). لم يتصدّ الهاجري للمرجعية مع أن عدداً من تلامذته الإيرانيين والعراقيين فعلوا ذلك وأصبح لهم مقلدون في السعودية، ومن بين تلامذته هؤلاء السيد صادق الشيرازي في قم والسيد محمد تقي المدرسي في كربلاء. وفي المدينة المنورة كان الشيخ محمد العمري (ت 2011) زعيمَ الشيعة في غرب المملكة العربية السعودية منذ العام 1951 والوكيل الرئيسي للمراجع الكبار الأجانب حتى وفاته، في حين تشير مصادر عديدة إليه واصفة إياه بالمجتهد. لكنه لم يشر إلى نفسه بأي شيء سوى كونه وكيلاً للمراجع الكبار. وقد كانت جنازة العمري ومجلس العزاء الذي أقيم بعد وفاته دليلين على مكانته الدينية والعلمية العليا في المجتمع الشيعي ليس في السعودية فقط وإنما بين شيعة العالم، فقد قام بتأبينه كلّ من المرشد الأعلى الإيراني آية الله الخامنئي والمرجع الأعلى في العراق السيد علي السيستاني وعقدا مجالس عزاء لوفاته. وهذا ليس مفاجئاً لأن جميع المجتهدين الذين ذهبوا إلى الحج في حياته كانوا يزورون مسجده المتواضع في مزرعته بالمدينة المنورة ويصلون مؤتمين به. مثال أخير هو الشيخ عبد الهادي الفضلي (ت 2013) الذي كان من الشخصيات المؤثرة في حزب الدعوة، وهو أكبر الأحزاب السياسية الشيعية في العالم العربي. فبعد أن أعلن السيد الخامنئي مرجعيته في العام 1993 أصبح الفضلي وكيله المطلق حتى وفاته (أي الفضلي).[9]
وفي البحرين ضمت الأغلبية الشيعية، ولا تزال، عدداً من رجال الدين ذوي الدرجات العالية الرفيعة الذين يدعمون الأسرة الحاكمة في البحرين، من أمثال الشيخ سليمان المدني (ت 2003)، وهو مجتهد وقاض[10]جعفريّ معيّن من قبل الحكومة، والشيخ عبد الأمير الجمري (ت 2006) الذي يعارض الحكومة. أما الكويت، حيث يمثل الشيعة حوالي 30 في المائة من السكان، ففيها عدد من رجال الدين الشيعة المعروفين كان أبرزهم السيد محمد باقر المهري (ت 2015) الذي كان يُروّجُ لاسمه بأنه المجتهد الكويتي الوحيد. لكنه لم يعلن تصديه للمرجعية وكان، كما هو الحال مع مواطنيه من شيعة الكويت، من الداعمين للأسرة الحاكمة في الكويت.[11]
المجتهدين الخليجيين الذين يدرّسون في النجف وقم والذين أثبتوا وجودهم في الحوزات التقليدية هناك سيكونون أوفر حظاً للارتقاء إلى موقع المرجعية من المجتهدين الذين يقيمون في دول الخليج
كيف يصبح رجل الدين مرجعاً؟
يمكن للمجتهد أن يرتقي إلى موقع المرجعية إذا أقرّ عدد من المجتهدين بأنه مؤهل لهذا الموقع بناءً على ورعه وأعلميته في الفقه والأصول، لذلك تقلّ حظوظ رجال الدين الذين يقيمون بعيداً عن الحواضر العلمية الشيعية في بلوغ هذا الموقع. لكن هذه العملية قد تأخذ مساراً مختلفاً بعد آية الله العظمى السيد السيستاني. أولاً، سيصعب على أيّ مجتهد أن يتفرد بالمرجعية في النجف بعده مباشرة، نظراً للمكانة فوق المعتادة التي بلغها السيستاني، ولوجود عدد من الأكفاء المتساوين في مؤهلاتهم لخلافته وهذا ما سيرفع مستوى المنافسة في مرحلة سياسية واجتماعية بالغة التعقيد.[12] بالإضافة إلى ذلك، ستكون للمجتهدين الخليجيين فرصة للتصدي للمرجعية، وإن اقتصرت طموحاتهم غالباً على تحقيق نجاح محلي في مجتمعاتهم. ومع ذلك فإن المجتهدين الخليجيين الذين يدرّسون في النجف وقم والذين أثبتوا وجودهم في الحوزات التقليدية هناك سيكونون أوفر حظاً للارتقاء إلى موقع المرجعية من المجتهدين الذين يقيمون في دول الخليج. لذلك فإن الاعتراف من قم والنجف سيظل هو الأمر الحاسم والأفضل لبلوغ موقع المرجعية. لكن العوامل المحلية قد يدعم المجتهدين المقيمين في مجتمعاتهم إذا تصدوا للمرجعية، خصوصاً إذا تلكأت النجف في تسمية مرجع أعلى وزعيماً للحوزة العلمية فيها وسدّ الفراغ الهائل الذي سيتركه السيد السيستاني، وهذا السيناريو هو المتوقع واقعاً.
يوجد اليوم عدد من المجتهدين في البحرين والمملكة العربية السعودية يقيم بعضهم في النجف وبعضهم الآخر في قم، إضافة للذين يقيمون في أوطانهم. وحسب ما نعرف، ليس ثمة مجتهدون في دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، لكن المستقبل القريب قد يأتي بعدد من المرشحين الأقوياء للمرجعية.
أبرز الأسماء المرشحة
البحرين
الشيخ محمد السند
ولد في البحرين في العام 1961، وبعد حصوله على شهادة في الهندسة من لندن انتقل إلى إيران في العام 1980 لحضور الدروس الدينية التقليدية في حوزة قم. تتلمذ هناك على كبار علماء قم مثل آيات الله: السيد محمد الروحاني، الشيخ جواد التبريزي، الشيخ الوحيد الخراساني، والميرزا هاشم آملي. اعتقلته الحكومة البحرينية في العام 2005 بسبب دعوته الأمم المتحدة لإجبار الحكومة البحرينية على التنحي وإجراء استفتاء شعبي لاختيار نوعية الحكومة التي يرغب فيها الشعب البحريني. وبناء على هذا الموقف تم تجريده من جنسيته البحرينية. في العام 2010، انتقل إلى النجف الأشرف وأصبح أحد أقطاب حوزتها.
يعتبر السند في الوقت الحاضر المرجع الخليجي الوحيد الذي تصدّى بالفعل وطرح مرجعيته. كذلك، فإنه، بحكم توجهه التقليدي، لديه إمكانية كسب المزيد من الدعم من رجال الدين التقليديين غير المسيسين في المنطقة. ولكن عندما نأخذ بالاعتبار تاريخه المشحون مع الحكومة البحرينية، فقد تتعسر عليه العودة إلى وطنه ليستقر هناك كمرجع محلي، إلا في حال حصول تغيير في الحالة السياسية الشيعية في البحرين.
الشيخ عيسى قاسم
ولد في البحرين في العام 1941. درس في النجف وكان من أبرز أستاذته آية الله السيد محمد باقر الصدر (ت 1980). وفي قم، درس عند آيات الله: الشيخ الفاضل اللنكراني (ت 2008)، السيد محمود الهاشمي الشاهرودي (ت 2018)، والسيد كاظم الحائري. تم انتخابه في المجلس الوطني البحريني وهو أول برلمان بحريني منتخب بعد الانتداب البريطاني.
عُرف بوصفه المرشد الروحي لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية، الكتلة السياسية الشيعية الكبرى في البحرين. وفي 20 يونيو 2016، جرّدته الحكومة البحرينية من جنسيته بعد حصار طويل على منزله. في العام 2018، غادر إلى لندن من أجل تلقي العلاج، وبعدها زار النجف الأشرف قبل أن يستقر في قم. يحظى الشيخ قاسم بشعبية كبيرة بين مقلدي المرشد الإيراني السيد علي الخامنئي في البحرين. وكحال الشيخ السند، فإن عودته إلى البحرين وطرح مرجعيته فيها أمر صعب في ظل الظروف السياسية الحالية في البلاد. علاوة على ذلك، فإن ارتباطه الوثيق بآية الله الخامنئي ودعمه لمفهوم ولاية الفقيه قد يضعف من أسهمه مع سلطات مجلس التعاون الخليجي لتقبله كمرجع محلي.
السيد عبدالله الغريفي
ولد في البحرين في العام 1939. درس في النجف الأشرف عند آيات الله: السيد أبو القاسم الخوئي (ت 1992)، السيد محمد باقر الصدر (ت 1980)، والسيد محمد حسين فضل الله (ت 2010)، وهو الذي تلا البيان الرسمي لوفاة السيد فضل الله، الأمر الذي يعكس مكانته المرموقة بين مريدي المرجع اللبناني. عاش خارج البلاد حتى العام 2001 ليعود بعد فترة وجيزة من الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني. عارض الغريفي دستور 2002 معتبراً إياه مخالفة للوعد العلني الذي قطعه العاهل البحريني بتوسيع المشاركة الشعبية وضمان حق مساءلة الحكومة.
سياسياً، يتبع الغريفي خطّا فقهيا يؤمن بولاية الفقيه. ولكن نظراً لكونه الشخصية الأبرز بين علماء الشيعة الذين لا يزالون في البحرين، فإنه من المتوقع أن يلاقي طرحه لمرجعيته ترحيباً من الحكومة البحرينية وبقية حكومات الخليج. فقد سبق له أن أدار الأوقاف الشيعية في دبي، كما بذل مؤخّرا جهوداً كبيرة من أجل المصالحة بين الطائفة الشيعية والحكومة البحرينية، إضافة إلى دعوته إلى تخفيف حدة التوتر الطائفي في المنطقة. وقد استقبله ملك البحرين في 13 ديسمبر 2020 بعد قطيعة دامت عشر سنوات لم يلتقيا خلالها. من المتوقع أن يثمّن أتباع مرجعية فضل الله في الخليج طرح الغريفي لمرجعيته خصوصا أنه سبق أن أقام ونشط في كل من الكويت ودبي عندما كان مبعدًا من البحرين قبل الميثاق.
المملكة العربية السعودية
الشيخ حسين العمران
ولد في القطيف في العام 1940، والده الشيخ فرج العمران أحد أبرز الأقطاب الدينية في المنطقة. درس في النجف الأشرف مدة عشر سنوات، لينتقل بعدها إلى قم ويمكث فيها خمس سنوات، قبل أن يعود ليستقر في مسقط رأسه بعد وفاة والده عام 1987. درس في النجف وقم عند مجموعة من أبرز علمائها مثل آيات الله السيد محمد سعيد الحكيم والشيخ محمد طاهر الخاقاني.
منذ استقراره في المنطقة، يعد العمران قطب الدراسة الحوزوية التقليدية في القطيف. فمعظم الطلبة البارزين متتلمذين على يديه. وبشكل عام، العمران هو صاحب الكلمة الفصل في تزكية المراجع والترويج لهم في المنطقة.
يحرص العديد من الشخصيات الاجتماعية البارزة في القطيف على أداء الصلاة في مسجده الذي تعرض لمحاولة هجوم إرهابي فاشلة في 4 يوليو 2017. وبالرغم من تمتعه بكل هذا النفوذ الاجتماعي والمكانة العلمية، فإن شخصيته المحافظة قد تمنعه من طرح مرجعيته، ولكنه يظل صاحب الحظ الأكبر إذا أراد طرح مرجعيته، نظرا لمكانته الكبيرة في المنطقة. يمكنه كذلك أن يلعب دورا حاسما في دعم صعود مرجع محلي إذا أراد.
السيد منير الخباز
ولد في القطيف في العام 1964، وهو ابن أخت الشيخ حسين العمران. انتقل إلى النجف للدراسة في سن الخامسة عشرة وبقي فيها أربع سنوات قبل أن ينتقل إلى قم. تنقّل بعدها بين المدينتين متتلمذاً على أبرز أستاذة حوزاتها. درس عند آيات الله: السيد أبو القاسم الخوئي (ت 1992)، والسيد علي السيستاني، والسيد أبو القاسم الكوكبي (ت 2005)، والشيخ جواد التبريزي (ت 2006). يتميز درسه للبحث الخارج (أعلى الدروس الحوزوية) بأنه الدرس الأكثر حضوراً بين الدروس الملقاة باللغة العربية في قم. وعليه، فإن لديه العديد من الطلبة العرب الذين قد يروجون لاسمه كمرجع محتمل. ولن يكون من المستغرب أن ترحب الحكومة السعودية به بوصفه مرجعاً غير مسيّس يجمع بين التأهيل العلمي والالتزام الراسخ بخط مدرسة النجف المبتعد عن السياسة والداعي إلى محدودية مشاركة علماء الدين في الشأن السياسي. ومن المرجح ألا يقدم الخباز على اتخاذ قرار بشأن طرح نفسه كمرجع في حياة أستاذه آية الله السيستاني.
السيد جعفر النمر
ولد في الأحساء في العام 1969، وينتمي إلى عائلة ثرية مستقرة في الدمام، مركز المنطقة الشرقية في المملكة. معظم أفراد هذه الأسرة ترجع في التقليد لآية الله الخامنئي. انتقل النمر إلى قم في العام 1987، ومنذ العام 1992 بدأ في حضور دروس البحث الخارج عند أبرز أساتذة الحوزة هناك من أمثال آيات الله: الشيخ الوحيد الخراساني، الشيخ الفاضل اللنكراني (ت 2008)، السيد محمود الهاشمي الشاهرودي (ت 2018). بدأ بتدريس الدروس المتقدمة في الفقه في العام 2001. وكما هي العادة في الأحساء في دعم العلماء البارزين المنتمين لأُسرٍ بارزة، فإنه -في حال قرّر طرح مرجعيته- سيحظى بدعم قوي من أسرته والأسر المتحالفة معها. ثمة أمر واحد حول الخلفية التيارية التي ينتمي لها النمر والتي تتحفظ الحكومة السعودية عليها وهي مسالة تقليد بعض مواطنيها للولي الفقيه الإيراني، وهي الدائرة الاجتماعية المحيطة بالسيد جعفر النمر.
الشيخ علي الجزيري
ولد في الأحساء في العام 1969. تتلمذ على أبرز مراجع قم والنجف مثل آيات الله: السيد محمد الروحاني (ت 1997)، الشيخ الوحيد الخراساني، والشيخ بشير النجفي. الجزيري من أنصار مدرسة النجف التي تدعو إلى ابتعاد علماء الدين عن الشأن السياسي. بالإضافة إلى تدريس الدروس الحوزوية المتقدمة، فقد ألف مجموعة من الكتب العلمية في مجاله. في العام 2008، عاد إلى المملكة واستقر في مسقط رأسه ليمارس التدريس المتقدم في الحوزة بالإضافة إلى الوعظ الجماهيري. وباعتباره شخصية ذات شعبية في الوسط الأحسائي، فإنه من الممكن أن يتشجع لطرح مرجعيته بعد السيد السيستاني.
نظرا للتاريخ الطويل من الارتباط بالمرجعيات العابرة للحدود (المستقرة في إيران والعراق)، سيحتاج شيعة الخليج إلى وقت ليتأقلموا مع مرجع يعيش بين ظهرانيهم، يؤم الصلاة في مساجدهم، ويتعامل مع شؤونهم بناء على المعايشة اليومية
المعوقات أمام المرجعيات الخليجية
إن بروز أي مرجعية شيعية خارج العراق وإيران يتجاوز كونه مسألة إرادة عالم دين محلي، أو مرتبطًا فقط بعملية الحصول على اعتراف في الحوزة قبل أن يقوم بطرح مرجعيته وجذب المقلدين في بلاده. ثمة تجارب ناجحة في هذا الصدد ولكنها تظل محدودة. من أبرز تلك النماذج آية الله السيد محمد حسين فضل الله (ت 2010) والذي أثبت وجوده في النجف قبل أن يعود إلى بلده لبنان مرتكزاً على تأهيله في النجف والإرث المحلي لعلماء جبل عامل المعقل التاريخي للشيعة في جنوب لبنان. كما ساعدته البيئة السياسية والاجتماعية المتسامحة في لبنان التي مكنته من النهوض بأعباء مرجعيته بشكل مقبول. معظم العناصر الاجتماعية والسياسية التي ساهمت في نجاح السيد فضل الله في لبنان غير متوفرة في دول مجلس التعاون الخليجي في الوقت الراهن، رغم وجود بوادر انفتاح وتحولات تلوح في الأفق.
ثمة أمور أخرى يجب أخذها في الحسبان، وعلى رأسها الأموال. فالمرجعية الناجحة تحتاج تمويلاً يأتي من أموال الحقوق الشرعية غير الخاضعة للإشراف الرسمي - يعتبر الدعم الحكومي قبلة الموت لشرعية المرجع الذي يُفترض فيه أن يتحلى بالاستقلال عن السلطات السياسية. ثمّة أموال وفيرة في منطقة الخليج تكفي لتقويّة أي مرجعية هناك، في حال تم تحويلها للداخل الخليجي بدلاً من وجهاتها الحالية (النجف وقم). بالمقابل، فإن الواقع يقول بأنه من الصعب جداً إقناع شيعة الخليج بتحويل تقليدهم الفقهي من المرجعيات التقليدية الحالية، خصوصا في النجف التي تشكل نقطة ارتباط عاطفي وتاريخي متجذرة في الوجدان الشيعي. أحد العلماء الشيعة يصرح لنا بأنه: "سيظل الناس مرتبطين عاطفيا بمرجع النجف"، يكمل هذا العالم قوله بأنه "من المرجح أن تعرقل الخصومات والصراعات الطائفية بروز مرجعية شيعية في المنطقة." وعليه، فإن بروز مرجعية شيعية في دول مجلس التعاون الخليجي يتطلب توافقات وطنية مبنية على جهود محلية بين أبناء هذه الدول وحكوماتها.
نظرا للتاريخ الطويل من الارتباط بالمرجعيات العابرة للحدود (المستقرة في إيران والعراق)، سيحتاج شيعة الخليج إلى وقت ليتأقلموا مع مرجع يعيش بين ظهرانيهم، يؤم الصلاة في مساجدهم، ويتعامل مع شؤونهم بناء على المعايشة اليومية بدلاً من النقل عن طريق الوسطاء. سيلقي هذا التغيير بظلاله على وكلاء مرجعيات النجف وقم في المنطقة. وعليه، سيتعين على المرجع المحلي أن يتعامل مع وكلاء المراجع العابرين للحدود بشكل خاص، كونه سيشكل تحدياً لمكانتهم الاجتماعية والاقتصادية القائمة على تمثيل المرجعيات العليا. سيكون التحدي الخطير الذي يواجه أي مرجع طموح متركزاً في تخفيف نفوذ هؤلاء الوكلاء. سيكون من الممكن تحقيق ذلك إما من خلال نهج تصاعدي يبني قاعدة عريضة من الدعم الشعبي، أو نهج تنازلي يستند إلى دعم وكلاء المرجعيات العليا. كلا الخيارين سيحمل الوكلاء على الإذعان لسلطة المرجع الجديد، الذي كان يُعدّ يوما ما زميلا لهم قبل أن يتفوّق عليهم ويطرح مرجعيته. بالتالي، فإنه من المرجح أن يواجه أي مرجع جديد مقاومة شديدة - بل وقاسية - من رجال الدين البارزين في مجتمعه.
تجدر الإشارة إلى أن المجتمعات الخليجية -كغيرها- تتخللها الانقسامات على أسس قبلية\أسرية ودينية. وبالنسبة للمكون الشيعي، فإنه من الشائع تصنيف الناس بناء على مرجع تقليدهم، لذلك تشيع مصطلحات مثل "سيستاني" "شيرازي" "خامنئي" للإشارة إلى عائلة معينة أو بلدة معية، أو على الأقل مسجد ما. هذا الشكل من تحديد الهوية يبني ويدعم التحالفات الاجتماعية، مما يصعّب تحويل الدعم عن المرجعيات القائمة حالياً. فالالتزام بدعم مرجعية ما يتطلب تاريخاً من التواصل وشبكات العلاقات والتحالفات الاجتماعية التي ستقاوم التغيير. كذلك، فإن المرجع الجديد المندمج في السياق المحلي، سيجد نفسه مطالباً بإصدار فتاوى ذات صلة بمواقف حرجة تتعلق بالشأن الداخلي كالاحتجاجات الداخلية أو الصراعات العسكرية مع دول أخرى. كذلك فإننا لا نجد حوزة قوية في منطقة الجزيرة العربية، وعليه، فإن فرصة ظهور مرجعية منافسة لمرجعيات قم والنجف تظل محدودة.
إن وجود حوزة محلية ذات مصداقية علمية ليس مسألةً ترفيّةً بالنسبة للمرجع. فأي مرجع قوي يحتاج إلى وجود حوزة علمية ناهضة من أجل الوفاء بثلاث مهام أساسية: (1) تزويده بمنبر للأنشطة الدراسية والفكرية؛ (2) تنمية جيل من الطلاب والتلاميذ الذين يمكنهم نقل دروسه وأحكامه إلى مجتمعاتهم، بما في ذلك كادر متقدم يعمل بمثابة شبكة أوسع من الوكلاء في المجتمع وخارجه، و (3) احتواء الطلاب المحليين، على جميع المستويات من أجل تقليل الحاجة إلى السفر إلى العراق أو إيران للحصول على تأهيل علمي متقدم. ومع مرور الوقت وتعزيز مصداقية الحوزة، من المرجح أن تنقلب الأمور فنجد طلاب من خارج المنطقة يقصدون الحوزات في الخليج من أجل الدراسة الدينية على المذهب الشيعي.
في حال نهوض حوزة شيعية محلية ووصولها إلى مستوى متقدم من المكانة والتأثير في الوسط الشيعي، فإن الدولة الحاضنة (السعودية أو البحرين) ستكون متمكنة من ممارسة التأثير في الوسط الشيعي ليس فقط داخل أراضيها، بل ربما حتى في الدول ذات الأغلبية الشيعية (إيران والعراق). سيتمثل الاستثمار السياسي في إرسال دعاة شيعة سعوديين أو بحرينيين إلى دول بها عدد كبير من الشيعة خارج معقل الشيعة التقليدي، مثل أذربيجان، الهند، باكستان، وأفغانستان. مثل هذه الخطوة ستمثل مرحلة جديدة من التنافس السعودي الإيراني، حيث ستنافس السعوديةُ إيرانَ في المشهد الشيعي العالمي، مع الاحتفاظ بمكانتها الريادية في جزء كبير من المجتمعات السنية.
حواشي
[1] من أجل فهم مكانة المرجع في الوسط الشيعي، ينبغي النظر إلى السياق التاريخي للتشيع. فبعد وفاة النبي محمد (ص) عام 632 م، انقسم المسلمون إلى مجموعتين رئيسيتين، السنة والشيعة. ينظر الشيعة إلى علي بن أبي طالب بوصفه الخليفة الشرعي للنبي ولا يعترفون بشرعية الخلفاء الآخرين. وحتى عندما تم اختيار علي بن أبي طالب ليكون الخليفة الرابع بالمقياس السني (656-661)، فإن أتباعه لم ينظروا إلى هذا الإجراء بوصفه مصدراً لشرعية خلافة علي. فهم يرون أنه قد "مُكّن" من ممارسة حقه في قيادة الأمة. كذلك فإن مجموعة من الشخصيات التاريخية التي تحظى بالاحترام السني قاتلت علي بن أبي طالب بعد توليه الخلافة حتى تمكنوا من تسلّم الحكم وتأسيس الملكية (دولة بني أمية). من وجهة نظر الشيعة، الأئمة الأحد عشر الذين خلفوا علياً من ذريته يتمتعون بالمكانة القدسية نفسها التي يتمتع بها علي، كونهم أوصياء على الدين الإسلامي. كما يعتقدون أن المسلمين الأوائل قد تجاهلوا الوصية النبوية بتنصيب علي خليفة شرعياً على المسلمين ورفضوا خلافة علي وذريته. وعليه، فإن القائد المثالي للمسلمين هو الشخص التقي صاحب العلم الديني، وإذا لم يمكّن من تولي مهامه، فإن هذا لا ينقص من مكانته الشرعية التي يتوجب على المؤمنين اتباعه حتى يأتي اليوم الذي يصل هو أو أحد خلفائه لسدة الحكم. هنا نجد المرجع - وهو نائب الإمام المعصوم - يقوم بدور الإمام، فهو القائد المؤقت للأمة ريثما يظهر الإمام الثاني عشر ليطالب بحقه ويحصل عليه. لمزيد من التفاصيل راجع بحث عبدالله فيصل آل ربح:
Abdullah F. Alrebh (2019). Muslims, Secularism, and the State, pp. 5-6
[2] الخمس: ضريبة يدفعها المسلمون الشيعة تمثل %20 من الدخل السنوي بعد خصم مصاريف العام كاملاً. ويستند الشيعة في شرعية هذا الواجب الديني إلى سورة الأنفال (آية 14). يدفع الشيعي الخمس للمرجع الذي يقلّده أو وكيله المفوض باستلام الحقوق الشرعية.l
[3] آية الله العظمى السيد علي السيستاني هو واحد من أكثر المراجع الدينية الشيعية نفوذاً في العالم. على الرغم من كونه مواطناً إيرانياً، فإن إقامته الطويلة في العراق - حيث يقيم في النجف بشكل مستمر منذ عام 1951 – وموقعه باعتباره المرجع الأعلى في حوزة النجف الشرعية مكّناه من أن يضطلع بدور مركزي في الشأن العراقي العام. وقد عزز دوره عن طريق الأسلوب الذي اتخذه في التدخل المحدود في الشؤون السياسية للدولة ودعمه لدولة مدنية وديمقراطية وغير ثيوقراطية، مما أضفى مزيداً من الشرعية على ممارسته لهذا الدور.
[4] غالبًا ما يتم تداول مثل هذا الاتهام في وسائل الإعلام إضافة إلى تعزيزه في الخطاب الاجتماعي والنقاشات السياسية. وقد تجذر هذا الاتهام ليصبح أمراً طبيعياً حتى خارج منطقة مجلس التعاون الخليجي. فعلى سبيل المثال، تصريح الرئيس المصري حسني مبارك لقناة العربية بأن "ولاء معظم الشيعة في المنطقة لإيران أكثر من ولائهم لبلادهم".https://www.alarabiya.net/ articles/2006%2F04%2F08%2F22686.htm
[5] قبل الإعلان الرسمي لتأسيس المملكة العربية السعودية، كان الساحل الشرقي يسمى بمنطقة القطيف والأحساء. يرجع تسمية المنطقة بهذا الاسم نسبة إلى واحتين رئيسيتين: القطيف شمالاً والأحساء جنوباً. القطيف والأحساء اليوم محافظات ذات أغلية شيعية في المنطقة الشرقية من المملكة.
[6] رغم أن هذه العائلات البارزة لا تحتكر صفة العلم الشرعي بين أفرادها، فإنها تحرص على بروز علماء دين من الأسرة ليمارسوا دوراً - وربما زعامة - اجتماعية داخل البلدة مما يعزز من مكانة الأسرة. وتعتمد الأسرة على مثل هذا العالم في شؤونها الدينية الخاصة مثل عقود النكاح والطلاق، صلوات الجنائز، وقضايا الأوقاف والمواريث وغيرها من الشؤون الاجتماعية.
[7] لا تتناول هذه الدراسة دول الخليج التي لم يوجد فيها مرجع محلي. حتى في الكويت التي يوجد فيها عدد كبير من أبناء الطائفة الشيعية، يتبع معظم الشيعة فيها مراجع في إيران والعراق. قد يكون هذا الارتباط الوثيق راجعاً إلى الموقع الجغرافي للكويت والتي تبعد حوالي 575 كيلومتراً. وكما هو معروف فإن النجف مركز روحي مهم للشيعة.
[8]هناك عدد كبير من الشيعة البحرينيين الذين يقلدون السيد محمد حسين فضل الله. وكما ذكرنا في المتن، فإن الذي قرأ بيان نعيه كان عالماً بحرينيناً بارزاً هو السيد عبد الله الغريفي. وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات لدينا، إلا أننا واثقون من أن عدد مقلدي فضل الله في البحرين أكثر من بقية دول الخليج. بالإضافة إلى ذلك، هناك عدد كبير من الشيعة السعوديين الذين ما زالوا يقلدون فضل الله. تستند هذه التقييمات إلى البحث الميداني الذي أجراه المؤلفان حول السكان الشيعة في المنطقة
[9]بالإضافة إلى تعليمه الديني التقليدي، حصل الفضلي على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة، وكان رئيساً لقسم اللغة العربية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة. وقد تزايد نشاطه الاجتماعي والثقافي بعد تقاعده من العمل الأكاديمي في العام 1989. تقاعد قبل سنوات قليلة من طرح خامنئي لمرجعيته ليصبح الفضلي الوكيل المطلق للخامنئي. أمضى السنوات الأخيرة من حياته في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية ناشطاً في إلقاء الخطب والمحاضرات العامة، بالإضافة إلى استقبال الناس في مجلسه الأسبوعي
[10]المجتهد: عالم دين مؤهل لاستنباط الحكم الشرعي. أما القاضي فهو هو المسؤول المعين من قبل الحكومة للنظر في الشؤون الشرعية. يوجد في البحرين نظام محاكم متداخل يسمح بتعيين قضاة شيعة في محاكم الأحوال المدنية
[11]تحتضن الكويت مرجعية جماعة الشيخية (وهي مجموعة مستقلة ضمن المذهب الشيعية الإثني عشري). ومؤخراً تم حصر زعامتها في عائلة الإحقاقي التي جاءت في الأصل من مدينة أوسكو في محافظة أذربيجان الإيرانية. كان ميرزا علي موسى الإحقاقي أول المراجع في هذه المدرسة جاء إلى الكويت في العام 1916. وبعد وفاته في العام 1967، خلفه شقيقه ميرزا حسن كمرجع حتى وفاته في العام 2000. وبعده تولى ميرزا عبد الرسول - ابن حسن - المرجعية حتى وفاته في العام 2003، عندما انتقلت المرجعية إلى عبد الله بن عبد الرسول وهو المرجع الحالي للجماعة. تعتبر الشيخية جماعة مغلقة، حيث لا يتحول أتباعها إلى تقليد مرجعية لا تتبع مبادئ الشيخ أحمد بن زين الدين بن إبراهيم الأحسائي (ت 1826). وقد تزايد انغلاق دائرة الشيخية منذ أن أصبحت المرجعية محصورة في أسرة الإحقاقي. يتواجد أتباع الإحقاقي في أجزاء كثيرة من المجتمعات الشيعية، بما في ذلك الأحساء في المملكة العربية السعودية. لم نقم بإدراج الشيخية في هذه الدراسة لأنها دائرة مغلقة وليست منافسة لمراجع النجف وقم، وبالتالي، إن تحولات المرجعية عندهم شأن مغلق داخل المجموعة.
[12];لمزيد من التفاصيل ، يرجى الاطلاع على بحث: عباس كاظم وباربرا سلافين( 15 يوليو 2019) ما بعد السيستاني والخامنئي: خلافة وشيكة ستشكل الشرق الأوسط.https://www.atlanticcouncil.org/wp-content/uploads/2019/12/After-Sistani-and-Khamenei-IB_AR2.pdf
سيرة الكاتبين
الدكتور عباس كاظم مدير برنامج العراق في المجلس الأطلسي بواشنطن. عمل أستاذاً وباحثاً في عدة جامعات أميركية منها جامعة ستانفورد وجامعة جونز هوبكنز وجامعة جورج واشنطن. من مؤلفاته كتاب استعادة العراق: ثورة العشرين وتأسيس الدولة الحديثة، وكتاب الحوكمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وكتاب الحوزة تحت الحصار: دراسة في وثائق حزب البعث العراقي. حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا – بيركلي.
الدكتور عبدالله فيصل آل ربح أستاذ مساعد لعلم اجتماع الدين والنظرية الاجتماعية بجامعة جراند فالي ستيت بولاية مشغان. باحث أكاديمي تنصب اهتماماته البحثية في علاقة الدين بالتحولات السياسية والاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط، بالذات في المملكة العربية السعودية ومنطقة الخليج. حصل على الدكتوراه من جامعة ولاية ميشيغان ، إيست لانسنغ عام 2014 ، بالإضافة إلى ماجستير في علم الاجتماع من جامعة ولاية ميشيغان ، وماجستير في الأدب العربي من جامعة الملك سعود بالرياض. نشر عددًا من الأوراق البحثية في الدوريات الأكاديمية إضافة لعدد من فصول الكتب التي تركز على الدين والشرق الأوسط والحراك الاجتماعي والتعليم في المنطقة. قبل انضمامه إلى جراند فالي ستيت، عمل الدكتور الرّبح أستاذاً مساعداً زائراً في جامعة ولاية ميشيغان وأستاذاً غير متفرغ بجامعة ساجينو بولاية مشغان.