تخوض مصر وإثيوبيا والسودان في مأزق خطير بشأن نهر النيل، وعلى الرغم مما يعتقده المجتمع الدولي، فإن خطر المواجهة العسكرية بين الدول الثلاث ليس مستبعدًا على الإطلاق. إذ بدأت أديس أبابا في المرحلة الثانية لملء الخزان خلف سد النهضة الإثيوبي العملاق في أوائل مايو/أيار دون اتفاق مع الدول المشاطئة – مصر والسودان. غير أن الكثير قد تغير خلال العام الماضي والملء الثاني يتم في ظروف مختلفة نوعًا ما عن الملء الأول في يوليو/تموز الماضي. ففي الأشهر الماضية، عززت مصر من تواجدها الدبلوماسي وظهرت كلاعب مؤثر في حوض النيل والقرن الإفريقي وشرق ووسط إفريقيا. كما نجحت القاهرة في تشكيل تحالف استراتيجي مع الخرطوم لممارسة ضغوط دبلوماسية على أديس أبابا، وتشكيل شبكات من التحالفات مع مختلف القوى الإقليمية عبر شرق ووسط إفريقيا والقرن الإفريقي لإبراز القوة والنفوذ، وممارسة الضغط الجيوسياسي على إثيوبيا بالتوازي مع المسار الدبلوماسي لحل الخلاف حول سد النهضة.
عشر سنوات من الجمود
على مدار 10 سنوات، ظلت مصر وإثيوبيا والسودان تتفاوض للوصول إلى اتفاق بشأن سد النهضة. هذا السد الأكبر في إفريقيا، عند اكتماله، سيولد 6.45 جيجاوات من الكهرباء التي ستساعد إثيوبيا على تعزيز تنميتها الاقتصادية. غير أن دولتي المصب، مصر والسودان، قلقتان من أن عدم وجود اتفاقية ملزمة قانونًا بشأن سد النهضة من شأنه أن يغير وضع النيل كممر مائي دولي، بالإضافة إلى المخاوف من حدوث جفاف من صنع الإنسان. القاهرة على وجه التحديد قلقة من الخسارة الوشيكة من حصتها من مياه النيل، الذي يزود مصر بـ90% من مياهها. بالإضافة إلى الشكوك المحيطة بتدفق المياه، تشعر الخرطوم بالقلق من الضرر الذي يمكن أن يلحقه سد النهضة بالسدود السودانية وتنظيمها للمياه.
دعوة لاستيقاظ القاهرة
في عام 2015، وقَّعت القاهرة والخرطوم وأديس أبابا إعلان المبادئ، الذي اعترفت بموجبه مصر والسودان بحق إثيوبيا في التنمية، واتفقت الدول الثلاث على الوصول إلى اتفاق قبل الملء الأول لسد النهضة في 2020. ومع ذلك، ففي 2020، بدأت إثيوبيا في ملء خزان السد دون التوصل على اتفاق ملزم قانونًا مع مصر والسودان. من ثم، فإن هذا الملء الأول لسد النهضة أكد حقيقة مظلمة لمصر: أنه إلى جانب الدبلوماسية المباشرة والتفاوض، افتقرت القاهرة إلى النفوذ في شرق ووسط إفريقيا والقرن الأفريقي للمساعدة في التوصل إلى اتفاق ملزم قانونًا مع السودان وإثيوبيا. منذ هذا الملء الأول، طوَّرت مصر استراتيجية خاصة بالنيل تتمحور حول التوافق الاستراتيجي مع السودان؛ الاتفاقيات العسكرية والأمنية مع أوغندا وكينيا وبوروندي؛ وتنامي العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع جيبوتي وتنزانيا وزامبيا وجنوب السودان.
التوافق الاستراتيجي مع السودان
في عهد الرئيس السابق عمر البشير، أعاقت العلاقات الباردة بين القاهرة والخرطوم التنسيق بين مصر والسودان بشأن القضايا السياسية، بما في ذلك سد النهضة. وبعد سقوط حكم البشير في 2019، لم تتوافق الحكومة الانتقالية الجديدة في الخرطوم مع موقف القاهرة فيما يتعلق بمحادثات النيل. غير أن حسابات الخرطوم بشأن النيل مالت نحو مصر بعد ملء إثيوبيا لسد النهضة لأول مرة في 2020، والتوترات الحدودية بين إثيوبيا والسودان في الفشقة، ودعم مصر السياسي والاقتصادي للسودان – مما يمثل حقبة جديدة من التوافق الاستراتيجي بين القاهرة والخرطوم. أجرت مصر والسودان اثنين من المناورات الجوية المشتركة، "نسور النيل – 1" في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 و"نسور النيل – 2" في مارس/أذار 2021. وركز التدريبان الجويان على عمليات اقتحام وإخفاء وتمويه وتوحيد المفاهيم العسكرية وإدارة العمليات الجوية المشتركة. والقيام بعمليات خاصة واستخدام أوضاع إطلاق نار مختلفة. كما كثَّفت القاهرة والخرطوم تعاونهما العسكري مع مناورات "حماة النيل" المشتركة التي أجريت في الفترة من 26 إلى 31 مايو/أيار الجاري، بمشاركة القوات البحرية والبرية والجوية للبلدين. وبحسب الجيش السوداني، فإن التدريبات المشتركة تهدف إلى "تبادل الخبرات العسكرية، وتعزيز التعاون بين الطرفين، وتوحيد أساليب العمل لمواجهة التهديدات المتوقعة التي تواجه البلدين". وخلال التصعيد الحدودي الأخير بين إثيوبيا والسودان، أكدت القاهرة دعمها لحق الخرطوم في طرد القوات الإثيوبية من منطقة الفشقة السودانية. كما زودت مصر الجيش السوداني بالمعدات الهندسية ومعدات تطهير المجاري المائية.
لم يقتصر التوافق الاستراتيجي بين السودان ومصر على التعاون العسكري، ولكنه توسع بشكل كبير ليشمل التعاون الاقتصادي أيضًا. استخدمت مصر قوتها الجيواقتصادية لتوطيد علاقاتها مع السودان. فاتفقت مصر والسودان على إنشاء خط سكة حديد عابر للحدود بين البلدين بقيمة 1.19 مليار دولار لنقل البضائع والركاب. علاوة على ذلك، وافقت مصر على إنشاء منطقة صناعية مشتركة في الخرطوم لتعزيز التكامل الصناعي والتجاري بين البلدين. ولتعزيز التزامها بعملية الانتقال السلمي في السودان ودعمها لها، شارك الرئيس عبد الفتاح السيسي في مؤتمر دولي حول السودان في باريس في منتصف مايو/أيار. وتعهدت مصر بالمساعدة في تخفيف ديون السودان بواسطة "استخدام حصة مصر في صندوق النقد الدولي للتعامل مع الديون المشكوك في تحصيلها".
انعكس التوافق العسكري والاقتصادي الجديد بين القاهرة والخرطوم في رفضهما المتزامن لقرار إثيوبيا المنفرد بالملء الثاني في 2021. اتخذ السودان موقفًا أكثر صرامة بشأن نزاع النيل أكثر من أي وقت مضى. وفي أبريل/نيسان، غيرت الخرطوم نبرتها بشكل جذري وأخبرت إثيوبيا مباشرة أن التنصل من اتفاقيات مياه النيل من شأنه أن يضر بسيادة إثيوبيا على منطقة بني شنقول، حيث يقع سد النهضة. وقال السودان إن "الادعاء الإثيوبي أن الاتفاقيات المعنية إرث استعماري لا يعتد به هو مغالطة صريحة للوقائع التاريخية"، مشيرًا إلى أن إثيوبيا كانت دولة مستقلة ذات سيادة وقت إبرام تلك الاتفاقيات، بينما كان السودان خاضعًا للاستعمار. كان السودان يشير إلى المعاهدة الأنجلو إثيوبية الموقعة عام 1902 بين بريطانيا العظمى – التي تمثل مصر والسودان – وإثيوبيا – ممثلة بالإمبراطور منليك الثاني ملك الحبشة. هذا الاتفاق يحظر على إثيوبيا إنشاء أي محطات مائية عبر النيل الأزرق من شأنها أن توثر على التدفق الطبيعي للنهر إلى الدول المشاطئة؛ في المقابل، منحت بريطانيا العظمى السيادة على منطقة بني شنقول السودانية آنذاك لإثيوبيا.
هجوم مصر الساحر في شرق ووسط إفريقيا
من أجل إظهار القوة في شرق إفريقيا، شنت القاهرة هجومًا ساحرًا في دول إفريقية رئيسية – بوروندي وكينيا وجنوب السودان وتنزانيا وأوغندا – من خلال التعاون العسكري والاستخباراتي والاقتصادي.
في مارس/أذار، زار رئيس بوروندي، إيفاريست ندايشيمي، القاهرة لمناقشة العلاقات الثنائية ونزاع النيل. وعقب الزيارة، توجه قائد القوات المسلحة البوروندية، الفريق برايم نيونجابو، إلى القاهرة لإجراء أول اجتماع للجنة العسكرية المصرية – البوروندية مع نظيره المصري الفريق محمد فريد لتعزيز التعاون العسكري الثنائي. وأسفر اجتماع اللجنة عن توقيع اتفاق تعاون عسكري مع بوروندي. في أبريل/نيسان، وبعد انهيار مفاوضات سد النهضة التي توسطت فيها جمهورية الكونغو الديمقراطية، سافر وفد من المخابرات العسكرية المصرية إلى كمبالا لتوقيع اتفاقية تبادل معلومات عسكرية مع أوغندا. وقال اللواء سامح صابر الدجوي، الذي ترأس وفد مصر إلى أوغندا إن "أوغندا ومصر تشتركان في النيل والتعاون بينهما أمر حتمي لأن ما يؤثر على الأوغنديين سيؤثر على مصر بشكل أو بآخر".
كما وقعت مصر اتفاقية تعاون عسكري مع جمهورية الكونغو الديمقراطية خلال زيارة رئيس أركان الجيش المصري، الفريق فريد، إلى كينشاسا في يونيو. وقد اتخذت القاهرة بعد ذلك خطوات لتعميق التعاون العسكري والأمني المشترك مع كينشاسا، بالإضافة إلى تقديم المساعدة الفنية والعملياتية للجيش الكونغولي.
أما الجائزة الكبرى لمصر في شرق إفريقيا فهي كينيا بسبب ثقلها الجغرافي الاستراتيجي في المنطقة ونزاعها مع إثيوبيا. أمضت القاهرة سنوات في تطوير علاقاتها مع نيروبي. في عام 2019، بعد زيارة وزيرة الخارجية الكينية مونيكا جمعة لمصر، دعمت القاهرة عضوية كينيا في مجلس الأمن الدولي. في أواخر أبريل/نيسان، التقى وزير الخارجية المصري سامح شكري بالرئيس الكيني أوهورو كينياتا لمناقشة قضية سد النهضة والإشارة إلى دعم مصر لمشاريع التنمية في كينيا. جاءت ذروة العلاقات الكينية المصرية في مايو/أيار مع توقيع اتفاق للتعاون الدفاعي.
في جنوب السودان، تتمتع القاهرة بعلاقات سياسية قوية مع جوبا. في عام 2020، قام الرئيس السيسي بزيارة تاريخية إلى عاصمة جنوب السودان، وهناك عرض رؤيته للشراكة الاستراتيجية بين القاهرة وجوبا، وأكد دعم مصر للتنمية الاقتصادية في جنوب السودان. في 23 يونيو/حزيران، افتتح وزير الري والموارد المائية المصري، محمد عبد العاطي، محطة لمعالجة المياه بنتها مصر في جبل الليمون بجنوب السودان. كما تجري مصر محادثات متقدمة مع جنوب السودان بشأن بناء سد واو، وهو سد متعدد الأغراض على نهر سيوي.
السيسي في جيبوتي
القرن الإفريقي جزء لا يتجزأ من مصالح مصر في حوض النيل والبحر الأحمر. غير أن مصر ظلت بعيدة عن المنطقة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك وطوال فترة عدم الاستقرار السياسي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فلا غرابة أن الأهمية الاستراتيجية للقرن الإفريقي قد اجتذبت العديد من القوى الإقليمية الأخرى، بما في ذلك تركيا وقطر والإمارات والسعودية. علاوة على ذلك، نظرًا لأن إريتريا وإثيوبيا في تحالف استراتيجي، فإن القاهرة تتطلع الآن إلى جيبوتي كشريك محتمل، في المقام الأول لأنها زودت إثيوبيا غير الساحلية بمينائها البحري الرئيسي للواردات والصادرات منذ التسعينات. في أول زيارة رسمية لرئيس مصري إلى جيبوتي منذ استقلالها عام 1977، سافر الرئيس السيسي إلى هناك في نهاية مايو/أيار والتقى الرئيس عمر جيله لمناقشة نزاع سد النهضة وأمن البحر الأحمر والعلاقات الثنائية. بالإضافة إلى ذلك، يريد السيسي استغلال قوة مصر الجيواقتصادية لتقوية علاقاتها مع جيبوتي بعد سنوات من العلاقات الباردة في عهد الرئيس الأسبق مبارك. كما يهدف السيسي إلى زيادة الاستثمارات المصرية في البنية التحتية لجيبوتي، وأول مشروع كبير لتحقيق هذه الغاية هو إنشاء منطقة لوجستية مصرية.
تحرك للأمام
في 2021، برزت القاهرة كلاعب نشط ومؤثر للغاية في حوض النيل والقرن الإفريقي ووسط وشرق إفريقيا بعد سنوات من الغياب في عهد مبارك وطوال فترة عدم الاستقرار السياسي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وسط التوترات المتزايدة بشأن سد النهضة، طورت القاهرة استراتيجية خاصة بالنيل تتمحور حول التوافق الكامل مع السودان وتطوير شبكة من التحالفات الاقتصادية والعسكرية في وسط وشرق إفريقيا والقرن الإفريقي. وهي تزود القاهرة بالقدرة على الحفاظ على الضغط الجيوسياسي وإظهار القوة والنفوذ في حوض النيل بالتوازي مع سعيها عبر المسار الدبلوماسي للتوصل إلى اتفاق ملزم مع إثيوبيا بشأن سد النهضة.
محمد سليمان هو باحث غير مقيم مع برنامج السيبر التابع لمعهد الشرق الأوسط. يركز عمله على تقاطع التكنولوجيا والجغرافيا السياسية والأعمال في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وجهات النظر المعروضة في هذا المقال هي خاصة به.
The Middle East Institute (MEI) is an independent, non-partisan, non-for-profit, educational organization. It does not engage in advocacy and its scholars’ opinions are their own. MEI welcomes financial donations, but retains sole editorial control over its work and its publications reflect only the authors’ views. For a listing of MEI donors, please click here.